الجمعة، 15 مايو 2009

الإسلاميون التقليديون... غياب ثقافة الديمقراطية

انصب الجهد الأكبر للباحثين العرب في حديثهم عن الإصلاح على كيفية التعامل مع تيارات "الإسلام السياسي" والشروط اللازمة لإدماجها الكامل في حياة ديمقراطية، أو حتى في إطار الشرعية السياسية والمشروعية القانونية، لكن الجميع تقريباً تجاهلوا الجانب الآخر من الظاهرة الدينية في العالم العربي الخاصة بالجماعات والمؤسسات "الدعوية" التي لا تهتم بالعمل السياسي المباشر، وأهملوا في جدلهم الفكري حول التحول الديمقراطي العربي مدى قابلية منظومة القيم والأفكار والتوجهات التي ترسخها تلك الجماعات والمؤسسات الدينية التقليدية لثقافة الديمقراطية.

وربما لم يتجاوز اهتمام الباحثين بهذه المؤسسات رصد دورها في العمل الأهلي أو الخيري، بوصفها من مؤسسات المجتمع المدني، دون أن يمتد هذا الاهتمام إلى معرفة ما يمكن أن تسهم به هذه المؤسسات، في أفكارها وممارساتها وهياكلها التنظيمية، في تعزيز ثقافة الديمقراطية، خاصة أن أتباعها كثر، ويعتبرهم البعض من الدوائر المتعاطفة مع الجماعات والتنظيمات الإسلامية المسيسة، بينما يحسبهم آخرون على الرصيد الدائم للسلطات الحاكمة.


إن بعض هذه المؤسسات عريق، ولديه شرعية دينية بين الجماهير. ويرجع قيام الطرق الصوفية المصرية إلى عهد السلطان صلاح الدين الأيوبي، لتأخذ شكل التنظيم العسكري في العصرين المملوكي والعثماني، ولتصدر أول لائحة رسمية لها في عام 1903 شكلت المجلس الصوفي، ثم تكون المجلس الأعلى للطرق الصوفية في عام 1976، ليضم تحت قيادته في الوقت الراهن 78 طريقة صوفية، يصل عدد أتباعها وفقاً لبعض التقديرات نحو 6 ملايين مصري.

كما نشأت "جماعة أنصار السنة المحمدية" في مصر في عام 1926، لتحارب الصوفية، وتسلك نهجاً فكرياً سلفياً، ولها مئة فرع، ويتبعها ألف مسجد منتشرة في شتى أنحاء مصر. أما "الجمعية الشرعية لتعاون العاملين بالكتاب والسنة" فقد تأسست عام 1922 وتملك أكثر من 350 فرعاً في مختلف أنحاء مصر، وتتمتع بتنظيم ومركزية وسياسة موحدة أكثر من الجمعيات الإسلامية الأخرى، واستطاعت بناء العديد من الروابط الواسعة والقوية مع الجمعيات الطلابية بالجامعات والمجموعات الإسلامية الأخرى، وتكوين شبكة واسعة في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والتعليمية والاجتماعية، وإنشاء العديد من المدارس والعيادات والمكتبات ودور الحضانة والخدمات الاجتماعية للنفع العام. وتوجد في الدول العربية كافة مؤسسات شبيهة بهاتين الجماعتين الكبيرتين.

ومن هنا تظل هناك دوماً ضرورة لدراسة القيم والتوجهات الديمقراطية التي تحكم فكر وممارسة وتنظيم بعض هذه المؤسسات كمدخل أولي إلى البحث عن أنجع طريق تقود إلى تعزيز ثقافة الديمقراطية لدى شريحة اجتماعية كبيرة، ولديها مصداقية، داخل المجتمع العربي.

وهناك أهداف مهمة لدراسات من هذا النوع، منها المساهمة في الجهود الرامية إلى تعزيز ثقافة الديمقراطية لدى قطاع اجتماعي عربي كبير، وبحث مستوى الوعي العام حول قيم الديمقراطية وممارستها لدى قيادات المؤسسات الدينية غير المسيسة، الأمر الذي يسهم فيما بعد في العمل على إكساب هذه المؤسسات مهارات الممارسة الديمقراطية في الواقع العملي، والتعرف عن كثب على بعض الأعضاء الفاعلين في هذه المؤسسات، توطئة لعقد دورات تدريبية لبعض من قادتها وأعضائها حول ثقافة الديمقراطية.

وحتى تتم مثل هذه الدراسات على أكمل وجه فلابد لها أن تغطى عدة مؤسسات إسلامية غير مسيسة، وتجعل فكرتها الرئيسية تدور حول بحث القيم والتوجهات الديمقراطية لدى هذه المؤسسات، وذلك عبر دراسة ثلاثة عناصر، الأول يتعلق بالأفكار والمبادئ الرئيسية التي تتبناها هذه المؤسسات، والثاني يتمثل في الممارسات الآنية والتجربة التاريخية، والثالث يرتبط بالهياكل التنظيمية والإدارية وطريقة إدارة العمل داخل هذه المؤسسات بين القمة والقاعدة. ويمكن تحديد مجموعة القيم التي سيقوم الباحثون بدراستها في الآتية: الحرية، والتسامح، والتعددية، والمساواة، وحق الاختلاف، والشفافية، والمساءلة.

وعلى وجه العموم، وبغض النظر عن التفاصيل الصغيرة والمسارات الفرعية، فإنه من الواضح أن الإسلاميين "التقليديين" سواء كانوا دعويين أم أصحاب غايات سياسية بحتة أو ظاهرة، لديهم وجهة نظر في قضية الديمقراطية شأنهم في ذلك شأن الإسلاميين التحديثيين أو أتباع التيار العلماني، ومن الضروري أن نطلع عليها.

إن أتباع التيار الديني التقليدي يطرحون تصورات لا تؤهل للديمقراطية، التي هي في جوهرها عملية تربوية، تقوم على حزمة من القيم التي تتم على أساسها تنشئة الفرد، بدءاً من الأسرة، وحتى الحزب السياسي، مروراً بالعديد من المؤسسات الاجتماعية، التي ينخرط فيها الناس أو يتماسُّون معها طيلة أعمارهم المديدة.

ويرى بعض العلمانيين أن المؤسسات الإسلامية التقليدية لا تنتج سوى طغيان مقنع، ومن ثم علينا أن نزيح طبقات كثيفة من الأفكار والممارسات المستبدة حتى تستوي الديمقراطية على سيقان اجتماعية وثقافية متينة. ويستند هؤلاء في تصورهم هذا إلى أن علم النفس الاجتماعي ينتصر لدور التنشئة السياسية في التمهيد للحكم الديمقراطي، عبر تكوين الفرد المؤمن بالحريات العامة، الحريص على المشاركة، المتسامح مع الآخرين والمؤمن بحقهم في الحرية، المستعد لتكريس بعض جهده لتقوية دعائم المجتمع المدني بما يمنع السلطة من التغول والتجبر، والقادر على أن يخوض مواجهة حامية إذا شعر بأن الديمقراطية التي ينعم بها مهددة، أو أن هناك من يتربص بها، ويريد اختطافها لحساب فرد مستبد، أو قلة محتكرة.

وبالطبع فهذه الخطوة مهمة كي تولد الديمقراطية على أكف قوية وفي نور ساطع يغلب عتمة الاستبداد، ثم تتعزز وتحافظ على وثوقها وثبات خطواتها وامتلاكها القدرة على تصحيح مسارها. لكن الربط الحتمي بين السمات النفسية للمحكومين ونوعية الحكم الذي يقودهم، هو من قبيل تعويق جهد الراغبين في وضع أفضل لمجتمعهم، ومن ثّم إطالة أمد أنظمة حكم تخاصم الديمقراطية وتكره من ينادي بها أو يدافع عنها.

وأنصع برهان على ذلك أن العديد من المجتمعات الغربية، لم تكن لحظة تحولها إلى الحكم الديمقراطي، أو حتى في الوقت الراهن، تحمل سمات نفسية واحدة، أو حتى متشابهة. فالدراسات التي أجريت على سيكولوجية الشعوب في مطلع القرن العشرين مثلا، ومنها كتاب مهم ألفه الباحث الفرنسي أندريه سيجفريد، أظهرت أن هناك اختلافاً في القسمات المشتركة لشعوب هذه المجتمعات. فالسمة العليا لدى الفرنسيين هي "البراعة" ولدى الإنجليز "العناد" وعند الألمان "التنظيم" أما الأميركيون فهم شعب "ديناميكي" والروس "متصوفون". ولحظة إجراء هذه الدراسات كان الإنجليز والفرنسيون والأميركيون والألمان ينعمون بالديمقراطية على الدرجة نفسها على رغم اختلاف سماتهم النفسية. والروس ضاقوا ذرعاً بالاستبداد طيلة الحكم الشيوعي، وها هم يضغطون كل يوم من أجل تعزيز تطورهم الديمقراطي، ومنهم من يريد تحقيق هذا الهدف بالجهود الذاتية، ومنهم من لا يمانع في دعم من الخارج لهذا المسار.

وما ينقص مجتمعاتنا هو الإصرار على المشاركة في صناعة المصائر، صغيرها وكبيرها، وتقبل الرأي الآخر والفكر المخالف، والاعتياد على الاختيار من بدائل، وليس الانصياع لإملاء مسار واحد. وحتى يتحقق هذا فإن أول خطوة يجب قطعها هي "تقدير الذات"، فالإنسان الذي يبخس ذاته، لا يمكنه، في نظر المدارس النفسية كافة، أن يتطلع إلى نيل حقوقه، مهما كانت ضئيلة، بل يستمرئ التفريط في ما له، ويركن إلى استعذاب الاضطهاد، وقد يصل به الأمر إلى حد تصور أنه لا يستحق الاحترام، بل لا يجدر به أن يحيا من الأساس.

وتقدير الذات قد يجد بابه الأوسع في إدراك ما في الأديان السماوية من دعوة إلى مقاومة الظلم، ومكافحة الشر والفساد، وإلى البحث عن الحل الجماعي، وليس الحلول الفردية المفرطة في الأنانية، التي لا تنتج سوى تمزق النسيج الاجتماعي، وبذلك تجد السلطة الحاكمة فرصاً متجددة للتجبر والتوحش.

والبداية ستكون حين تشرع الجماعات البحثية والكتاب والمثقفون وواضعو البرامج التعليمية وخطباء المساجد ومؤلفو الدراما التلفزيونية وأفلام السينما في تطبيب نفسية الإنسان العربي، وإخراجها من الإحساس الكاذب بالضعة والاستضعاف، وانتشالها من الاكتئاب والانسحاب والشعور المرير باللاجدوى. ومثل هذه الخطوات ستظل ناقصة إن لم نلتفت إلى ضرورة نشر ثقافة الديمقراطية لدى التيار الإسلامي التقليدي في العالم العربي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق