الجمعة، 15 مايو 2009

إدارة الجودة الشاملة في التعليم

من المعروف أن الجودة (Quality) هي الغاية التي تتطلع إليها كل مؤسسة أو منشأة، وهي حلم يراودها بصرف النظر عما إذا كانت تنتمي إلى القطاع الخاص أو القطاع الحكومي، ومن غير المعقول أن يطلق مسمى «الجودة» وهي على غير تلك الحال.
ويعتقد الكثيرون أن التحرك لمواجهة مشكلات العمل واتخاذ الحلول المناسبة لها هو الأسلوب الإداري الأمثل، وهو ما يعرف بأسلوب «ردة الفعل». وانطلاقًا من منظور الجودة يؤدي اتباع هذا الأسلوب إلى تدني مستوى الأداء، وهو ما يتنافى تمامًا مع أبسط مفاهيم الجودة الأساسية التي تسعى إلى التحسين والتطوير المستمرين للارتقاء بمستوى الأداء، والتركيز على الأسلوب الوقائي في التصدي للمشاكل قبل وقوعها.
ونظام إدارة الجودة الشاملة Total Quality Management (TQM) يركز على أداء العمل الصحيح بشكل مباشر ومن أول مرة وفي كل مرة، والتحسين المستمر لجميع العمليات، والتركيز على الأساليب الوقائية في التصدي للمشاكل قبل وقوعها، ومشاركة جميع الأفراد العاملين في المؤسسة أو المنشأة من خلال استخدام مجموعة من أدوات الجودة المختلفة بهدف إرضاء العملاء أو المستفيدين بأعلى إنتاجية وأقل جهد وتكلفة. ومن خلال هذا المفهوم نجد أن هناك تباينًا واضحًا بين أسلوب إدارة الجودة الشاملة والأسلوب الإداري التقليدي من حيث التركيز على:
*المشاركة الجماعية بدلاً من الانفرادية في صنع القرارات.
* التركيز على التخطيط الاستراتيجي بدلاً من التخطيط قصير الأجل
* المناقشة المفتوحة بدلاً من أسلوب التخويف.
* التحسين المستمر بدلاً من برامج محددة ثابتة.
* السياسات المرنة بدلاً من سياسات عمل جامدة.
* القرب من العميل أو المستفيد ومتطلباته بدلاً من البعد عنه.
* البحث في أسباب المشاكل بدلاً من العمل على النتائج.
ويعد أسلوب إدارة الجودة الشاملة حجر الزاوية في عملية بناء اقتصاد ديناميكي ومجتمع منتج. كيف لا، والعالم يشهد تحولات جذرية، تمثلت على سبيل المثال لا الحصر في ثورة تقنيات المعلومات، وثورة الجينات، إضافة إلى تحديات العولمة ومنظمة التجارة العالمية وما نتج وينتج عن كل ذلك من منافسة حادة وشرسة بين الدول والشركات على حد سواء.
ونتيجة لذلك أصبحت «الجودة» (والمقصود هنا الجودة الحقيقية وليست شعارات الجودة) هي الشغل الشاغل للقيادات الإدارية، وإحدى الركائز الأساسية لقدرة مختلف المؤسسات والمنشآت على البقاء والنمو والازدهار.
ونظام إدارة الجودة الشامل يشمل:
*جميع مجالات الخدمة والأنشطة التي تقدمها المؤسسة أو المنشأة.
*جميع العملاء أو المستفيدين الخارجيين.
*جميع العملاء أو المستفيدين الداخليين.
أولاً: شمولية الجودة لجميع مجالات الخدمة والأنشطة
طبقًا لنظام إدارة الجودة الشاملة، فإنه يجب أن تشمل الجودة جميع مجالات العمل على جميع مستويات المؤسسة أو المنشأة، فمن غير المعقول أن يتم تحقيق الجودة بالنسبة لبعض مجالات الخدمة دون البعض الآخر.
يجب أن تشمل إدارة الجودة الشاملة جميع العملاء أو المستفيدين الخارجيين أو ما يسمى بمصطلح «المراجعين» في القطاع الحكومي. والحقيقة أن مصطلح «المراجع» من المصطلحات التي يكثر تداولها في مؤسسات القطاع الحكومي، والذي ينطوي على مدلولات لفظية عجيبة ومتناقضة. فالعميل أو المستفيد ـ كما نفضل استخدامه ـ يعتقد أنه لن يراجع مرة أخرى للحصول على الخدمة المطلوبة «مو... راجع»، بينما يصر مقدم الخدمة على مراجعته مرة أو مرات أخرى حسبما يشير إليه المصطلح «مراجع».
وأعتقد أن استخدام مصطلح العميل أو المستفيد يوحي بالدفء في التعامل الذي يجب أن يحظى به العميل أو المستفيد من الخدمة انطلاقًا من مبدأ «العميل على حق دائمًا». فالهدف من قيام أي مؤسسة أو منشأة في الأساس هو رضا العميل، بل إسعاده وتقديم أفضل خدمة له من أول مرة وفي كل مرة وعلى الدوام. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا الصدد: من منا لا يرغب في إرضاء العملاء أو المستفيدين من خدمات إدارته وتقديم أفضل الخدمات لهم؟ الإجابة قطعًا لا يوجد.
إذًا ما السبيل لتحقيق ذلك الهدف؟
يعتقد البعض أنه يعرف مقدمًا ماذا يريد العميل أو المستفيد، ويتصرف على هذا الأساس. والنتيجة هي فجوة أو هوة كبيرة بين الخدمة المقدمة والخدمة المطلوبة، وهو ما يؤدي إلى سخط وتذمر العملاء أو المستفيدين وهدر في التكلفة والجهد. لذا يجب أن يحظى جميع العملاء أو المستفيدين بأفضل وأرقى خدمة لهم دون تمييز، ووضع استراتيجية تكفل تحقيق ذلك، مبنية على متطلباتهم واحتياجاتهم وتوقعاتهم.
والحقيقة أن فكرة جودة الأداء وخدمة المجتمع وتحقيق رضاهم وارتباط ذلك بوجود المسؤول في موقعه لتحقيق ذلك الهدف، يعد من الممارسات السائدة في صدر الإسلام. فها هو الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، ] يرسل إلى أحد ولاته بعد أن ازداد سخط المسلمين عليه وكثرت شكواهم ضده، رسالة مختصرة ذات مدلول واضح يقول فيها: «لقد كثر شاكوك، وقل شاكروك، فإما اعتدلت، وإما اعتزلت».
ثانيًا: شمولية الجودة لجميع العملاء أو المستفيدين الداخليين:
ويقصد بذلك دمج جميع العاملين في عملية تحسين الجودة حتى يشعر كل فرد أنه مسؤول عن جودة عمله، وذلك من خلال الأخذ بمبدأ «التمكين» أي إعطاء الموظف الصلاحيات المطلوبة لممارسة عمله ومشاركته في صنع القرار، وهو ما يسهم في تشجيع روح الإبداع والابتكار ، وتحقيق الرضا، وتنمية روح الولاء لدى الموظف تجاه المؤسسة أو المنشأة التي ينتمي إليها.
لذا فإن إدارة الجودة الشاملة هي في الأساس ثقافة بالمفهوم السلوكي المؤسسي، هي تركز على عنصرين أساسيين هما المعرفة والالتزام. فدون المعرفة لا يمكن اختيار الأفضل لواقع مؤسساتنا، ودون الالتزام لا نستطيع تحويل المعرفة إلى واقع عملي أو فعل تطبيقي نستطيع متابعة نتائجه.
وأخيرًا فإن مدى الاقتناع بأهمية إدارة الجودة الشاملة والالتزام بها يتطلب إعادة النظر في الهياكل التنظيمية القائمة، ونظم العمل وتدريب العاملين، وقد يتطلب الأمر إعادة هندسة العمليات الإدارية (الهندرة) Busines Process Reengineering (BPR)، والأهم من ذلك كله تغيير الثقافة التنظيمية لدى جميع العاملين، أي الطريقة أو الأسلوب الذي يؤدى به العمل حتى يتواءم مع متطلبات الجودة. فالجودة ثقافة، فسلوك، فممارسة وتطبيق، وهذا يتطلب إدارة جيدة وواعية للتغيير وتبنيه كنهج إداري ثابت ومستمر.
وفي السنوات الأخيرة برز مفهوم نظام إدارة الجودة الشاملة Total Quality Management (TQM) للتعامل مع هذه التحديات، والذي يهدف في مجمله إلى تسليط الضوء على جوانب القصور وتحديد سبل إزالة أسبابها. وإدارة الجودة الشاملة تعني إرضاء العملاء أو المستفيدين الداخليين أو الخارجيين باستمرار من خلال أداء العمل الصحيح بشكل صحيح ومن أول مرة وفي كل مرة بشكل يفي ويتخطى باستمرار متطلباتهم وتوقعاتهم بأقل تكلفة ممكنة، واستخدام أمثل للموارد. لذا فإنه طبقًا لهذا التعريف، فالجودة لا تعني توفير منتج أو خدمة أفضل بسعر أو تكلفة أعلى، بل على العكس تمامًا: توفير منتج أو خدمة أفضل بسعر أو تكلفة أقل. كما إن الإيفاء بمتطلبات العملاء أو المستفيدين يعني فهم حاجاتهم وتوقعاتهم وتحويلها إلى منتجات وخدمات مع ضمان الأداء بشكل صحيح من أول مرة وفي كل مرة. أما توقعات العملاء أو المستفيدين فيعني ذلك التحسين المستمر. وتأتي كلمة «الشاملة» في التعريف السابق لأن الجودة بالمفهوم الحديث تمثل مدخلاً لكل وظائف وأنشطة المؤسسة أو المنشأة لكل العاملين في المستويات الإدارية المختلفة من القمة إلى قاعدة الهرم، لكل العلاقات الداخلية رأسية أو أفقية، ولكل العلاقات الخارجية، ولكل طرق وأساليب التحسين المستمرة.
ويذكر خبير الجودة جوزيف جابلونسكي، أن وراء تطبيق مفهوم إدارة الجودة الشاملة في القطاع الحكومي عاملين في غاية الأهمية هما:
العامل الأول: ارتباط الجودة بالإنتاجية، وفي هذا الصدد يذكر الخبراء أن ما نسبته 40% إلى 50% من تكاليف الخدمات التي تقدمها مؤسسات القطاع الحكومي تضيع هدرًا، بسبب غياب التركيز على الجودة.
العامل الثاني: إن تطبيق جودة الخدمة كنتيجة حتمية للمشاكل التي سببتها البيروقراطية وما تتطلبه من إجراءات تنظيمية مطولة ومعقدة.
وتعد إدارة الجودة الشاملة أسلوبًا فعالاً يركز على الطريقة أو الأسلوب الذي من الممكن أن يؤدى به العمل لتحقيق الاستخدام الأمثل للموارد والطاقات البشرية الكامنة، كما إنه يعد نظامًا تحفيزيًا، حيث يمنح الصلاحيات للعاملين ويحثهم على النجاح من أجل الارتقاء بمستويات أداء عالية. ويعد هذا الأسلوب بمثابة مظلة يندرج تحتها عدد كبير من مبادرات الجودة والتي يمكن إدارتها مثل دوائر الجودة، ومراقبة الجودة، والضبط الإحصائي للعملية، وتأكيد الجودة، وخدمة العميل، وتحسين الإنتاجية...إلخ.
وعلى الرغم من شيوع ونجاح فلسفة إدارة الجودة الشاملة في القطاع الصناعي (شونمبرغز 1994م)، إلا أنه أصبح مصطلحًا شائعًا في قطاع التربية والتعليم (فوسكو 1994م). وهناك العديد من النماذج لأسلوب إدارة الجودة الشاملة في القطاع التعليمي. ويعد نموذج إدواردس ديمنغ للجودة الأنسب في هذا المجال (موريس 1993م). ويرتكز نموذج ديمنغ للجودة على تحسين مستوى الأداء في المنشأة أو المؤسسة من خلال مبادئه الأربعة عشر المشهورة التي أصبحت أساسًا لمفهوم إدارة الجودة الشاملة، وهي على النحو التالي:
* وضع هدف دائم وثابت يتمثل في تحسين المنتجات والخدمات.
* تبني فلسفة جديدة لمفهوم الجودة.
* التخلص من الاعتماد على التفتيش لتحقيق الجودة، وذلك ببناء الجودة من الأساس.
* إلغاء تقويم العمل على أساس السعر.
* وجود تطوير وتحسين مستمر في طرق اختبار جودة المنتجات والخدمات.
* الاستمرار في التدريب الفعال على رأس العمل.
* وجود قيادة فعالة.
* البعد عن سياسة التخويف.
* القضاء على العوائق التنظيمية بين الإدارات والأقسام المختلفة.
* التخلص من الشعارات.
* التخلص من الأهداف الرقمية للإنتاج أو الأداء.
* التخلص من العوائق التي تحول دون الاعتزاز بالصنعة وجودتها.
* البدء ببرنامج قوي من أجل التعليم والتحسين الذاتي لكل فرد.
* إيجاد التنظيم اللازم لمتابعة وتحقيق هذه التغييرات.
ويذكر بلاكيستون وسباتيلا (1996م) أن عددًا من الإدارات التعليمية والمدارس في التعليم العام في الولايات المتحدة الأمريكية قد تبنوا بالفعل فلسفة إدارة الجودة الشاملة وحققوا نتائج إيجابية مذهلة. وتعد مدرسة ماونت إيدج كومب الثانوية في مدينة سيتكا بولاية آلاسكا في الولايات المتحدة الأمريكية أول مدرسة حكومية تطبق مفاهيم ومبادئ إدارة الجودة الشاملة، حيث يقضي الطلاب ما يقرب من 90 دقيقة أسبوعيًا في برنامج تدريبي في تطوير وتحسين الجودة وحل المشكلات، يستعرضون مستوى أدائهم، وطرق التعلم المختلفة لكل منهم، والعمل كفريق مع الإدارة والأساتذة في مشاريع التحسين المستمر لجودة التعليم. وقد أوضحت إحدى الدراسات التي أجريت على أكثر من 100 منطقة تعليمية في الولايات المتحدة الأمريكية تطبق أسلوب إدارة الجودة الشاملة في مؤسساتها التربوية والتعليمية نتائج جيدة في مستوى أدائها، ومتفاوتة بين بعضها بعضًا (هورين، هيلي، وروباك 1993م، شابيل 1993م)، كما أن نظام إدارة الجودة الشاملة أثبت نجاحه في التعليم العالي في الولايات المتحدة الأمريكية. فقد خلصت إحدى الدراسات التي أجريت على العديد من الكليات والجامعات الأمريكية التي تطبق أسلوب إدارة الجودة الشاملة إلى زيادة تمكين العاملين، ورضا العملاء أو المستفيدين، وفريق عمل، وتغيير في ثقافة الأفراد (هورين، هيلي، وروباك 1993م).
ومن خلال تجربة تطبيق نظام الجودة الأيزو 9000 التي قام بها مركز الأمير محمد بن فهد بن عبدالعزيز للجودة في بعض مدارس التعليم العام في محافظة الأحساء (نظام الجودة الأيزو 9000 أحد الأساليب التي تهدف إلى تحقيق إدارة الجودة الشاملة) يتضح أن المجال مشجع وخصب لتطبيق هذا الأسلوب بعد التوسع في تطبيقه في بيئات تعليمية مختلفة، يمكن من خلاله إيجاد أسلوب أمثل وفعال للجودة في التعليم وفق بيئة المملكة العربية السعودية.
وأعتقد أن العمل على نجاح أسلوب إدارة الجودة الشاملة في التعليم ليس سهلاً وإن كان ممكنًا، بل يعد من أكثر التحديات التي تتطلب مزيدًا من الصبر والالتزام، كما أن هذا الأسلوب ليس علاجًا سريعًا، بل يتطلب فكرًا بعيد المدى وتخطيطًا طويل الأجل لإعطاء نتائج إيجابية. إذ إن فلسفة إدارة الجودة الشاملة تتطلب تغييرًا في ثقافة العمل، أي الطريقة أو الممارسة اليومية التي يؤدى بها العمل، بالإضافة إلى أن هذه الفلسفة لا تعني أن الجودة هدف محدد نحققه ونحتفل به ومن ثم ننساه، بل تعبر الجودة عن هدف متغير، أي تحسين الجودة وبصفة مستمرة.
وعلى ذلك يمكن القول أن المؤسسة أو المنشأة التي تعمل في ظل فلسفة إدارة الجودة الشاملة تقوم بدور مختلف عنها في ظل فلسفة الإدارة البيروقراطية وما تتطلبه من إجراءات تنظيمية مطولة ومعقدة. إذ يتطلب أسلوب إدارة الجودة الشاملة تحليلاً وتقويمًا شاملاً ومفصلاً لجميع أنشطة وعمليات المؤسسة أو المنشأة من أجل تطويرها وتحسينها.
ومن هذا المنطلق يأتي التزام الإدارة العليا للمؤسسة التربوية بجعل الجودة في المقام الأول في سلم أولوياتها والعمل المستمر من أجل التحسين المستمر، والتركيز على فريق العمل، وإشراك جميع الأطراف المعنية في العملية التربوية والتعليمية (جميع العاملين في المؤسسات التعليمية، والطلاب، وأولياء أمور الطلاب) في مشاريع الجودة مع الاستفادة القصوى من التغذية الراجعة للمستفيدين من الخدمة عاملاً مهمًا وحيويًا في نجاح تطبيق أسلوب إدارة الجودة الشاملة في المؤسسات التربوية واستمرار نجاحه مستقبلاً إن شاء الله تعالى.
ـــــــــــــــ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق