الأربعاء، 13 مايو 2009

منهجية الارتجال والاحتلال: الموت التنظيمي لحقل الإدارة العامة في العراق

تعيش المنظمات الحكومية أزمتها الخانقة، التي قد تسهم في جعلها منظمات تعاني من الشيخوخة والموت المحتمل، كلما طالت عزلتها الروتينية، وحبست نشاطاتها الإدارية والتنظيمية، في سور من الانغلاقية في القرارات، والتقليدية في الأداء، وصبغت سلوكياتها بالفساد وتجاوز القانون والأنظمة.

فمثلما الكائن الحي وبشكل عام، يمرُّ بأطوار متعددة، تشكل سياق وجوده التكاملي: (نشوء، ولادة، نمو، بلوغ، شيخوخة، موت) فإنَّ المنظمات الحكومية شُبهت بالكائن الحيّ لتكتسب هي الأخرى سياق وجودها التكاملي، الذي أطلق عليه علماء التنظيم الحكومي مفهوم (دورة حياة المنظمات Organizations Life Cycle) من خلال تساوق المراحل التي تمرُّ بها وهي: (النواة، الاحتواء، التماسك، الانطلاق، التراجع، الاختفاء).

وقد حرص الفكر التنظيمي الذي يناصر مفهوم دورة الحياة، على تقديم الوصايا والدفاعات، كي لا تفقد المنظمات مرحلة الانطلاق سريعا، وتدخل في مرحلة التراجع فالاختفاء قبل الأوان، مما يعني ثمة أخطاء مؤثرة وأمراض خطيرة مزمنة ومُعيقة، قد انتابت المنظمات، فجعلتها تموت بطريقة ملفتة للنظر والتساؤل...!

لقد أسهم الاحتلال الأمريكي للعراق، بوجود المقبرة الإدارية والتنظيمية في المنظمات الحكومية التي أنشأها، تحت ذريعة إعادة التنظيم الحكومي الجديد للدوائر والمؤسسات العامة، لغرض دعمها بالقدرة والقابلية على التطوير، ومواكبة العصرنة والتقانة الحديثة ومتطلبات الحوسبة، إذْ كشفت حقائق الأمور كل هذه الادعاءات الوهمية بالتطوير وصنع التغيير، وبينت بشكل عملي ملموس، مدى التدمير التنظيمي، الذي لحق بالمنظمات العامة، التي فقدت تاريخيتها وتجربتها وخبرتها السابقة المشهود لها، لتصبح كيانات إدارية فاقدة لرمزها ومكانتها وحتى عموميتها، ومفرغة من أيَّة رؤية إستراتيجية، تتطلبها جهود التخطيط والتميز الإداري في الأداء وجودة المخرجات.

ذلك لأنَّ المنظمات الجديدة في ظل الإدارة العامة للاحتلال، تمَّ تجريدها من النظرة الحيادية، وحتى من مستلزمات العمومية، فضلاَ عن حجب الاستقلالية عنها في أداء واجباتها، وجعلها منساقة تحت مشيئة المنظومة العسكرية لقوات الاحتلال، وإبقائها عرضة دائمة لتدخل الجنرالات الأمريكيين، الذين يشرفون على أعمال الوزارات نزولا إلى أعمال دوائرها المحلية، قي المحافظات والوحدات الإدارية الأصغر.

وقد أسفر هذا النهج في عسكرة الإدارة، عن قيام دوائر ومنظمات حكومية عامة، يعشعش فيها الفساد بمختلف أشكاله ومسمياته، ويضطلع في قيادتها أناس موالون طارئون متسلقون وانتهازيون، ليس لهم خبرة مهنية، ولا حتى لديهم سابق معرفة بأية شواهد عن مقتضيات الأخلاقية الوظيفية، وشكلوا في غالبية نشاطاتهم المظهرية، تماشيا مع رحلة الفساد ونهب الموارد، تحت غطاء الدعم التحزبي والحماية الجماعوية الفئوية المُؤَمَنة لهم من منطلقات الارتزاقية والميليشياوية.

وهذه السمة الشائعة من التدهور التنظيمي، قد شملت حتى المؤسسات العلمية، التي يفترض أن تكون عقليتها القيادية أكثر التزاما وانضباطاً بالمدونات الأخلاقية والنزاهة الإدارية، فبعض الجامعات التعليمية المنتشرة في المحافظات، التي قدر لها أن تعمل دون رقيب ولا حسيب من الجهات الرقابية العليا، بفعل تدهور الظرف الأمنية العامة، حولها إلى بؤر للمافيا الإدارية والحرص على كسب المغانم، وجعل قياداتها متهافتة على تقعرها العشائري والقبلي والتحزبي، ضمن إطار العصبة والعائلة والقرابة والأتباع، دون الأخذ بشرط الرتبة العلمية الأعلى في إسناد المناصب، ولا باستحقاقات السيرة الذاتية والعلمية الأجود، ودون تبنّي منظور المشاركة الموضوعية في اتخاذ الفرارات، والأخذ بمبدأ روح الفريق.

وكل هذه المؤشرات السلبية وغيرها، قد أفرزت ظاهرة تخلُّفية كبيرة في المجتمع التنظيمي للإدارة العامة في العراق، ضمن مرحلة الاحتلال الأمريكي، يمكن أن نُسمّيها ظاهرة ( الأمية الإدارية ) بوصفها متعاكسة أو متضادة مع حقائق البناء الثقافي التنظيمي والإداري، الذي يقتضي المعرفة والعلم، إلى جانب توافر الاستعداد للعمل والأداء بفاعلية، فضلا عن اعتماد مسلمات الشفافية والنقد البنَّاء، والمقارنة المرجعية لتثبيت مستوى التميز الحقيقي.

وإذا كانت أمريكا قد اشتهرت بمخزونها الواسع في الدراسات والنظريات الإدارية العامة، وعُدَّت المصدر الأول المتقدم في العالم، الذي يزود العقل الإداري، ومنذ قرن من الزمان، بمناهج معالجة المشكلات الإدارية، وإدارة الأزمات، ومداخل التطوير التنظيمي والإصلاح الإداريLVD;Hأمريكاأ

ا، فإنّها وبفعل سلوكها العدواني وغير الطبيعي إزاء البيئة العراقية، لم تجلب لحقل الإدارة العامة في العراق، إلاّ منهج التحايل أو الارتجال Improvisation Method، الذي تمخض عنه كل سلوك قبيح وفايروس مؤذٍ، ينخر بشكلٍ نهمٍ في الحيوية الإدارية المُتبقية، ليحيلها اليوم إلى عدمية، تضجُّ بالتخريب والتدمير والفشل.

والمشكلة التي يمكن أن تصبح قضية صعبة مستقبلاً، وقد يستحيل حلّها بشكل نهائي، على صعيد الزمان والمكان والسلوك، من جراء استشراء منهج التحايل أو الارتجال ذاك، في جميع مفاصل الإدارة العراقية العامة، يتجلى من خلال وجود عقلية إدارية جديدة، مشفوعة رؤيتها وسلوكياتها بدوافع غريبة وعجيبة، قائمة على التسلقية وفقدان المصداقية والأخلاقية، والإيمان التام بالانخراط في منظومة اللصوصية البيروقراطية، والهرولة في نشاطات المنافقة وتعاطي الرشوة ومسايرة الخطأ، وخلق الموظف الحكومي المزدوج الشخصية، صاحب التصرفات المنفلتة أميبياً، والمتصفة بعدم النزاهة، على الرغم من وجود تغطية مفتعلة للسلوك التمثيلي، بالمواظبة على الصلوات الخمس في المسجد، والتهالك الخشوع على أداء فريضة الحج والمنح التحاصصية في قسمة الامتيازات.

فهكذا هي المعادلة التفييمية لواقع الإدارة العامة والمنظمات الإدارية العامة في البيئة العراقية، تحت أزمة الاحتلال وجرائمه التخريبية، التي استطاعت أن تستقطب إليها موجة فاقدة لميزتها الوطنية، من الموارد البشرية غير الكفوءة والمصنوعة عبر ورش ودورات، ذات أبعاد سياسية، اكثر مما هي ذات أبعاد مهنية أو احترافية إدارية، لكي تكون جهداً داعماً لخطط الاحتلال ومصالحه، على حساب المصلحة الوطنية العامة، التي لا مجال لانتعاشها والتقائها في ظل ظروف الاحتلال، التي قضمت فكرة الدولة والنظام والمجتمع المؤسسي، وأحالت المنظمات العامة إلى موجودات خالية من الحياة، أي موجودات شبعت موتاً وتلاشيا، فلم تعد ذات روح وجدوى وفاعلية، طبقاً لمنهجية الارتجال والاحتلال الأمريكي للعراق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق