الجمعة، 15 مايو 2009

الضبط الاجتماعي والتطفل على الآخرين

تتعرض كثير من تطبيقات الضبط الاجتماعي لاسيما ما تعلق منها بالقيم الأخلاقية والآداب العامة خلال الحراك الفكري الدائر في المجتمع مؤخراً لكتابات يفتقد كثيرٌ منها للطرح الموضوعي واللغة العلمية ، ويغلب عليها الطرح المؤدلج ، الذي يوظف عملية النقد لهذا المفهوم لخدمة أجندة فكرية معينة ، الأمر الذي ولد حوله نوعاً من الضبابية .

فبعض الكتابات تتحدث عن الضبط الاجتماعي على أنه مفهوم تقليدي يتناقض مع الوعي العلمي والديمقراطي ، فالأفراد في وجهة نظرهم لديهم وعي شخصي ، ويعرفون ما ينفعهم وما يضرهم أكثر من غيرهم ، وهم أحرار فيما يفعلونه ، وتصور تلك الكتابات كثيراً من تطبيقات سلطات الضبط الاجتماعي على أنها ممارسات سلبية تنتج عن نوع من الوصاية الاجتماعية التي تمارس ضد الأفراد ، و أنها صورة من صور التطفل على الآخرين ، والتدخل في خصوصياتهم ، وإلغاء استقلاليتهم ، ومصادرة حرياتهم الشخصية ، وقتل روح الإبداع والابتكار والتجديد في ذواتهم ، في مطالبات غير منطقية بأن يُترك للأفراد حق ممارسة السلوك الذي يرغبون فيه ؛ بغض النظر عن موافقته للمنظومة القيمية للمجتمع أو الآداب والذوق العام ، شريطة عدم تعديه مادياً على الآخرين ، فسلوكيات الأفراد في وجهة نظرهم هي ممارسات اجتماعية طبيعية ، تعبر عن رغبات شخصية ، وتساهم في تحقيق نوع من الإشباع الذاتي ، ولا يترتب عليها ضرر بالغ يستدعي مصادرتها .

وفي هذا الخضم تختلط المفاهيم والمسميات ؛ فتُصور النصيحة وتطبيقات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على أنها وصاية على الآخرين ، وتكريس لأحادية الفكر ، وفرض لنموذج موحد في التفكير والسلوك ، ويتهم القائمون بذلك بأنهم يتعاملون مع المجتمع وكأنهم أوصياء عليه !! ويوصف الأفراد الموجه لهم شكل من أشكال الضبط الاجتماعي بأنهم أناس قاصرون وليسوا براشدين ، فالراشد يدرك مصلحته بنفسه دون وصاية من أحد !!

هذا التفكير الرافض لكثير من صور وتطبيقات الضبط الاجتماعي سواء الصادرة من المؤسسات العامة المعنية أو من بعض الأفراد المناط بهم مسئولية اجتماعية نابع في وجهة نظري من تأثر مباشر أو غير مباشر بالفكر الليبرالي الغربي الذي يرى أن حق الفرد هو الأساس ، وواجب الدولة والمجتمع هو حماية استقلاله ، وتسهيل سعيه لتحقيق ذاته ، وإتاحة المجال أمامه للاختيار الحر ، فالحرية الفردية في الفكر الليبرالي هي أولى الأولويات ، ولا يمكن أن يضحى بها من أجل المجتمع ، وحق الفرد وحريته مقدم على حقوق الجماعة ، ولا يحق للجماعة التدخل للحد من حريات الأفراد إلا في نطاق محدد ، وهو في حالة اعتداءه على حق غيره المعادل لحقه ، ومصلحة المجتمع ليست إلا حصيلة مجموع مصالح أفراده.

ومحاولات بعض هؤلاء المتأثرين لتحجيم أو إضعاف كثير من تطبيقات الضبط أو الوصاية الاجتماعية تعود إلى أن وجود سلطات متنوعة و فاعلة تضبط السلوك الاجتماعي في المجتمع السعودي ، وتحظى بالقبول والدعم على المستوى الشعبي والرسمي ، و لها جذور راسخة في ثقافة المجتمع ؛ يحول دون انتشار مفردات الفكر الليبرالي المقدِس للحرية الفردية في الواقع اليومي المعاش ، ونتيجةً لذلك شوهدت محاولات متعددة من بعض هؤلاء المتأثرين ومن دار في فلكهم باتجاه تحجيم الدور الضبطي لهذه السلطات وتهميشه ، بل ومحاولة تشويهه أحياناً وتحريض الأفراد عليه .

وبناء على ذلك فنستطيع القول إن هذه الممارسات النقدية المتعسفة لتطبيقات الضبط الاجتماعي تأتي كخطوة ضمن سياق عام يستهدف الترويج للفكر الليبرالي والمذهب الفردي في المجتمع السعودي ، وذلك يستدعي بالدرجة الأولى إزالة ما أمكن من العوائق الثقافية والتنظيمية التي تحول دون ذلك ، كما أن ذلك يفسر - بدرجة ما - الشغب الذي يثيره البعض حول بعض القضايا المجتمعية ؛ كحدود دور الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر سيما في مجال الأخلاق والآداب ، ومسألة قوامة الرجل ، وولايته على المرأة ودلالات ذلك ، والمسئولية الاجتماعية المناطة بالأخ الأكبر تجاه أسرته ومدى شرعيتها وقبولها ، وغير ذلك من المسائل ذات الصلة .

والملاحظ أن الاعتراض على تطبيقات هذه السلطة الاجتماعية اتجه بالدرجة الأولى إلى ما يتعلق بالأخلاق والآداب العامة دون غيرها ، بينما ما يتعلق بالشأن التنظيمي والمادي فلا يرى أولئك غضاضة في تطبيق الوصاية الاجتماعية عليه من خلال جهات الاختصاص والأفراد المخولين ، وذلك بناءً على مغالطة مفادها أن الأخلاق شأنٌ شخصيٌ لا ينبغي التدخل فيه ؛ حتى وإن كان السلوك المُخِلُ بها علنياً ، ، وتلك المغالطة أفرزتها نظرة مادية بحتة لا ترعي المكون المعنوي للمجتمع والذي لا يقل أهمية عن مكونه المادي ، بل قد يتفوق عليه في الأهمية في بعض الحالات.

يقابل هذا التطرف تطرفٌ أخر في الجهة المقابلة يبالغ في التطبيقات الضبطية للسلوك الاجتماعي إلى أن تلغي رأي الفرد واختياراته غير المخالفة لقيم وثقافة المجتمع وذلك على حساب رأي الجماعة ، ويُصادر حقه في التعبير عن رأيه في القضايا المعاشة اليومية بحجة أن السلطة أو الجماعة يمكن أن تنوب عن الفرد في الاختيار والتفكير ، وهي أدرى بمصالح الجميع.

بين هذين الصوتين المتطرفين يأتي صوت الاعتدال ، الذي يتعامل مع هذا المفهوم وتطبيقاته بموضوعية وبلغة علمية بعيداً عن الأطروحات المؤدلجة ، صوتٌ يدرك أن المجتمعات الإنسانية لا تخلو بحال من شكل من أشكال الضبط أو الوصاية الاجتماعية وبمستويات مختلفة تزيد أو تنقص من مجتمع لآخر ، وتتشكل حدودها وأطرها العامة حسب ثقافة المجتمع وطبيعة حياته الاجتماعية ، فوجود سلطات عامة أو خاصة تضبط سلوك الأفراد يعد ضرورة اجتماعية لا تستغني عنها المجتمعات ، وإن اختلفت تطبيقاتها ومسمياتها من مجتمع لأخر .

ومن دون وجود قدر من الضبط الاجتماعي لا يستطيع أفراد المجتمع تنظيم حياتهم اليومية وعلائقهم الاجتماعية وطموحاتهم ، وترتيب حقوقهم وواجباتهم ، وبذلك تصبح الحياة فوضوية وعشوائية ، فهو إذن صورة من صور التكافل والتعاون بين أفراد المجتمع ، ومقوم مهم للحفاظ على الكيان المعنوي للمجتمع والمتمثل في منظومته القيمية والثقافية المشكلة لهويته .

وهذه الممارسة الضبطية الاجتماعية في صورتها المعتدلة ليس فيه إلغاء للاختيارات الشخصية أو للتعددية في الفكر والسلوك طالما أن ذلك لم يتصادم مع النسيج الثقافي والقيمي للمجتمع ، فالفرد حينما ينتمي إلى مجتمع ما ، فإن انتماءه ذلك يعني نوعاً من التعاقد بين المجتمع والفرد ، يمنح المجتمع للفرد مقابله حق الاندماج في نسيجه الاجتماعي ، كما يوجب على الفرد في المقابل احترام معايير وقيم ذلك المجتمع .

وما نراه من تسامح في بعض المجتمعات مع بعض السلوكيات السلبية ليس معناه أنه ليس هناك ضبط أو وصاية اجتماعية في ذلك المجتمع ، بل إن ذلك راجعٌ إلى اختلاف درجة تهديد ذلك السلوك لقيم ومبادئ ذلك المجتمع ، فكلما هددها أكثر قل التسامح معه ، ومتى ما قل تهديده لها زادت مساحة التسامح مع ذلك السلوك ، وعلى هذه فالسبب الأساسي يعود إلى طبيعة ثقافة ذلك المجتمع والقيم والمبادئ التي أفرزتها تلك الثقافة المجتمعية .

ومع هذا فإن هذا الصوت المعتدل يدرك أن هناك حاجة ملحة لعمليات المراجعة والتقويم المستمر لتطبيقات الضبط الاجتماعي، وذلك بهدف ترشيد هذه الممارسة الاجتماعية لا إلغاءها أو تحجيم تطبيقاتها ، و يوجه نقده إلى التطبيقات السلبية لتلك الممارسة فقط دون الاعتراض على أساسها ، وبذلك تكون هذه السلطة الاجتماعية عاملاً مساعداً في تنمية الوطن وصناعة رجاله القادرين على النهوض به .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق