الجمعة، 15 مايو 2009

المجتمــــع المدنــــى والانتقال الديموقراطي في العالم العربي

برز مفهوم المجتمع المدنى فى سياق البحث عن صيغة للانتقال السلمى إلى الديموقراطية فى الدول الشمولية والتسلطية. وعنى هذا المفهوم أولا بانتزاع فضاء للنمو التلقائى للروابط التحتية للمجتمع وتحقيق حدٍ أدنى من الاستقلالية لهذه الروابط بعيدا عن سطوة الدولة، وإيجاد بنيات يمكنها الدفاع عن الفرد والجماعات الصغيرة ضد توحشها، وأخيرا تمكين المجتمع المنظم تلقائيا فى روابط إرادية من إعادة صياغة الدولة بما يعزز الحرية ويضمن النمو المنهجى للمجتمع ككل على ضوء التوافقات والصور والرؤى التى تتطور عضويا وتنطلق جدليا فى الفضاء الاجتماعى والسياسى.
وبينما نشأت فى بعض دول أوربا الشرقية روابط ومنتديات مدنية، فان الانتقال الديموقراطى فى هذه المنطقة وقع بفضل ثورات انبثقت بصورة متزامنة عام 1989، وليس بفضل هذا السيناريو الضمنى الذى افترضته نظرية المجتمع المدنى. فهذه الثورات انفجرت كفعل اجتماعى مفاجئ لملايين من الأفراد الذين التقوا دون سابق تخطيط أو معرفة فى الشوارع، ليقوموا بتغيير النظم السياسية فى بلادهم، ولم يكونوا بالضرورة منظمين فى روابط أو تنظيمات ومؤسسات مدنية كما حدث فى حركة التضامن فى بولندا، مثلا منذ نهاية عقد السبعينيات. بل أن ثورة 1989 فى بولندا وقعت بعد أن تم القضاء على حركة تضامن.
أى أن التدقيق فى الانتقال الديموقراطى فى أوربا الشرقية يقود للتشكيك فى سلامة نظرية المجتمع المدنى كسيناريو للانتقال الديموقراطى من حيث المبدأ. وتتركز هذه الشكوك فى إمكانية نضوج وتبلور مجتمع مدنى قادر على الدعوة للفعل الجماعى وتنظيم هذا الفعل فى الفضاء العام لتغيير طبيعة الدولة الشمولية والتسلطية بصورة سلمية عبر فترة طويلة من الزمن. ذلك أن الدولة الشمولية والتسلطية تبدو قادرة فى الغالبية الساحقة من الحالات على تجريف الأساس المادى للفضاءات المدنية المستقلة والمنظمة بصورة منهجية.
ويطرح نقل هذه النظرية إلى المنطقة العربية عبر صيغة معدلة لميثاق هلسنكى إشكاليات أكثر عمقا. فالأساس المادى للمجتمع المدنى فى المنطقة يعد - كما سنبين لاحقا- أكثر هشاشة بكثير مما تحقق لأوربا الشرقية وأمريكا اللاتينية. وحجم التلف الذى أصاب النسيج المدنى بسبب مواقف وفلسفات وإيديولوجيات وسياسات الدولة العربية فى عصر ما بعد الاستقلال يعد أعظم وأشد بكثير من أى تجارب أخرى فى العالم باستثناء أفريقيا جنوب الصحراء. كما يجب أن نشير أيضا إلى الائتلافات والتحالفات المنظمة وغير المنظمة التى تدافع عن النظم السياسية القائمة ونمط الدولة التسلطية والشمولية والعائلية فى المنطقة العربية تعد أقوى بكثير.
ولا تعنى هذه الاختلافات فى العمليات الاجتماعية والتاريخية المحددة لنشأة وتطور المجتمع المدنى الافتقار إلى نضالات مدنية أو إلى طلائع من المناضلين والنشطاء المدنيين والسياسيين الذين يكافحون من أجل الديموقراطية. ولكن هذه الاختلافات تفرض الحاجة إلى نظرية للفعل السياسى والمدنى واستراتيجية أو استراتيجيات للانتقال الديموقراطى أكثر انسجاما مع المعطيات الواقعية لمختلف الأقطار العربية فى الحقبة الراهنة من تطورها.
وغاية ما ترمى إليه هذه الورقة هو طرح فكرة أن إطلاق الجدل الاجتماعى فى الفضاء المدنى يحتاج هو ذاته إلى انقطاع جوهرى فى الأوضاع السياسية بما يسمح بإرساء معطيات أفضل للتطور المدنى. وبتعبير أخر فان تحقيق خطوات متقدمة فى عملية الانتقال الديموقراطى يصبح شرطا لنمو ونضوج المجتمع المدنى. وبذلك نصل مضطرين إلى نتيجة معاكسة إلى حد بعيد لمنطلقات نظرية المجتمع المدنى كما طرحت فى السياق التاريخى لأوربا الشرقية وأمريكا اللاتينية فى الربع الأخير من القرن العشرين. وببساطة يحتاج العرب ــ أو أكثرهم ــ إلى نظرية بديلة وأكثر واقعية للانتقال الديموقراطى الذى يسمح بتطور مدنى خلاق.


أولاً: هشاشة المجتمع المدنى العربى

لا يعد المجتمع المدنى العربى شديد الهشاشة فقط، بل إنه طرح كمفهوم فى تلك اللحظة التى تتسم بانطلاق عوامل وقوى عملاقة مدمرة للحالة المدنية للمجتمع. وتثير هذه الفجوة أو التناقض قلق المهتمين بواقع المجتمع العربى بحد ذاته، وبغض النظر عن قضية الانتقال الديموقراطى.
يعتقد البعض أنه يمكن تعريف المجتمع المدنى كحيزمحدد من الروابط المدنية. فوفقا لرأى أحد أهم المنظرين، فالمجتمع المدنى فى مصر يتكون من نحو 22 ألف منظمة تضم الجمعيات الأهلية والنوادى الرياضية والنقابات المهنية.. إلخ.
غير أن هذا التعيين للمجتمع المدنى كحيز اجتماعى- أو قطاع أو فضاء من الروابط الحديثة- يصطدم مع حقائق معاكسة للافتراض القائل باستقلالية المجتمع المدنى. فالغالبية الساحقة من تلك المنظمات لم تنشأ بالأصل مستقلة عن الدولة أو مقابلها ومن أجل الدفاع عن المصالح والرؤى والفعاليات الخاصة بأعضائها. ففى مصر نجد أن الدولة الناصرية ممثلة فى وزارة الشئون الاجتماعية هى التى بادرت بإنشاء مئات من الجمعيات الأهلية، وهى الجمعيات التى صنفتها تحت اسم الجمعيات التنموية من نوع الأسر المنتجة. وازداد عدد هذه الجمعيات بحيث يبلغ الآن عدة آلاف. ويعمل فى هذه الجمعيات عدد من موظفى الدولة يبلغ عددهم فى القاهرة والجيزة والإسكندرية وحدها نحو 17 ألفا. وثمة تقدير بأن هذا العدد يصل إلى 160 ألفا بالنسبة لمجموع الجمعيات المسجلة. ونسبة لا بأس بها من تلك الجمعيات يحصل على إعانات مالية مباشرة من الدولة، إضافة إلى تسهيل حصولها على جانب لا بأس به من المعونات الدولية قدر بنحو 100 مليون جنيه.
وتحول هذه الحقائق دون تضمين مثل هذه الجمعيات داخل مظلة المجتمع المدنى. إذ يمكن النظر إليها أيضا على اعتبار أنها آلية تخصيص توزيعية ابتكرتها الدولة وسيطرت عليها وتعد امتدادا غير رسمى لها. وفضلا عن قيامها بدور مهم فى آليات التخصيص وفى تطبيق السياسات الاجتماعية للحكومة، فهى تلعب دورا مهما فى تدوير النخبة وفى تخصيص الوظائف السياسية بين الموالين للدولة التسلطية. إذ تسمح الدولة بإتاحة موارد مادية وسياسية لكوادر الدولة الذين يحالون مؤقتا إلى هامش الحياة السياسية الرسمية حتى يتم استدعاؤهم فى الوقت المناسب وعندما تحتاجهم الدولة بأكثر من غيرهم للقيام بتعبئة الأنصار فى العمليات السياسية الكبرى وخاصة الانتخابات العامة. فتقوم هذه الكوادر بتأسيس أو الاستيلاء على قيادة الجمعيات الأهلية والتعاونية وبناء شبكات كبيرة من العلاقات الزبونية أو علاقات المحسوبية، وغالبا ما يديرون هذه الجمعيات بصورة شبه انفرادية وبعيدا تماما عن الآليات الديموقراطية.
وربما يكون الاستثناء الأكبر والأكثر ضخامة هى تلك الجمعيات التى تنشأ على قاعدة دينية. وتشغل تلك الجمعيات نحو 40% من العدد الإجمالى للجمعيات المسجلة فى مصر، وتتمتع بموارد ضخمة. وهذه الجمعيات لا تقوم من جانبها بتنظيم الجماهير وضمان تنمية نسيج اجتماعى حولها، لأنها تدار فى الغالب من جانب عناصر محترفة وتتمتع بقدرات عالية فى التحشيد دون أن تسمح للجماعات ذات الصلة بما فى ذلك الأعضاء الإسميون بالمشاركة الحقة فى اتخاذ القرارات ورسم السياسات. فهى إذن تدار من أعلى بطريقة أبوية لا تختلف عن الجمعيات وثيقة الصلة بالدولة إلا فى الاعتماد على الوازع الدينى والنشاطية المدنية ذات المرتبطة بالسياسات الدينية وخاصة الحركات الإسلامية المنظمة.
وهناك نوع ثالث من الجمعيات التى لا تعمل إلا بصورة موسمية من أجل توزيع أو انتزاع منافع طارئة، فهناك مثلا مئات من الجمعيات التى نشأت أصلا للحصول على تأشيرات الحج وتدوير الأموال المرتبطة بهذا النشاط، وإن كانت مسجلة باسم جماعات فرعية للغاية مثل زملاء العمل فى إدارات حكومية أو هيئات عامة أو مناطق جغرافية.
وخارج هذه الأطر، تكونت جمعيات معينة لتقديم خدمات تنموية حقيقية، أو للنضال من أجل مبادئ وقيم مدنية أو حقوقية. ويظهر مفهوم المجتمع المدنى كتسمية عامة لنوع محدد من النشاطية التى تتيح للمثقف مخاطبة وقيادة المنظمات التطوعية الحديثة وخاصة النقابات والجمعيات والحركات الاجتماعية، مثل حركة المرأة. وقد حظى هذا المفهوم بشعبية بين العناصر المثقفة الثورية التى هجرت أو كفرت بالأحزاب التقدمية التقليدية، وانتقلت للعمل فى الهياكل الشعبية المفتوحة بتأثير المفكر الإيطالى جرامشى، أى كجزء من التزام المثقف العضوى نحو مجتمعه وبلاده. فجاء فى الوثيقة الأساسية للجان إحياء المجتمع المدنى فى سوريا أنه تلح الحاجة اليوم إلى إحياء مؤسسات مجتمعية متحررة من هيمنة السلطة التنفيذية والأجهزة الأمنية التى منحت لنفسها جميع الصلاحيات، ومتحررة من الروابط والعلاقات والبنى التقليدية، كالمذهبية والعشائرية والطائفية، وذلك لإعادة إنتاج السياسة فى المجتمع بوصفها فاعليته الحرة الواعية ولتحقيق التوازن الضرورى بين المجتمع والدولة...
وتشتد الحاجة لنقد هذا المفهوم القطاعى للمجتمع المدنى عندما يكون أداء هذه المنظمات مخيبا للآمال من حيث الإدارة الداخلية أو العنف الذى يميز العلاقات بين مختلف الأطراف المشاركة. فالعنف الذى ميز انتخابات النوادى الرياضية فى مصر، والنزاعات القضائية المزمنة التى شلت طويلا عددا من أبرز النقابات المهنية فى البلاد وخاصة خلال عقدى الثمانينيات والتسعينيات، ينفى أن تكون مثل هذه المنظمات حاملا أمينا لرسالة نشر الثقافة المدنية التى تقوم فى الجوهر على السلم وتسوية المنازعات بصورة سلمية وأخلاقية.
كما تزداد الشكوك حول أصالة كثير من الهياكل والمنظمات المدنية عندما لا تنشأ من جوف المجتمع وتعبيرا عن فعالياته، بل من عوامل خارجية. وقد التقط بعض الباحثين هذا التناقض. فتسخر شيلا كارباشيو من اعتمادية المنظمات غير الحكومية الحديثة فى اليمن وكثير من البلاد العربية الأخرى باعتبارها أقرب إلى التجارة أو التخصيص النفعى للموارد الخارجية منه إلى التعبير الحر عن الرغبة فى التماسك المجتمعى أو تنظيم المبادرات المجتمعية المستقلة. وترى كارباشيو أن ثمة سوقاً للعملات الحرة مناسباً لتطبيق هذه الأجندة...ومع ذلك فهناك بعض النشطاء الذين يرفضون هذه المعونات ..مشيرين إلى نوع جديد من التبعية: البحث عن الريع...ورغم النفوذ غير المنازع للممولين على الجماعات المحلية، فمن الواضح أن المنظمات غير الحكومية فى الشرق الأوسط ليست مجرد ناتج للنفوذ الخارجى الغربى. فالنشاطية غير الحكومية هى طريقة للاستجابة للظروف الاقتصادية والاجتماعية المعاصرة.
وبتعبير أخر، فان الغالبية الساحقة من المنظمات المدنية لا يفى بالمعانى التى توقعها أصحاب نظرية المجتمع المدنى المشتقة من تجربة ميثاق هلسنكى. فالقطاع المدنى الفعلى ليس هو المجتمع الذى تسوده علاقات تعاقدية حرة كما ينظمها القانون المدنى أو الثقافة المدنية الحديثة القائمة على الأفراد المتساوين والمشاركة النشطة فى صنع السياسات والذى يمكن تحقيقه من خلال نقل ولاء الناس من الأنماط الهيراركية للإدارة بما فى ذلك تلك التى تقوم على النيابة أو التمثيل إلى منظومة من المشتركيات أو الروابط، وليس هو مجموع المواطنين الأحرار كما تصورهم دستور صولون فى أثينا اليونانية القديمة. بل وليس هو الكيان المجتمعى الذى يقع خارج النسق المتكون من علاقة الدولة والسوق. فتكون منظمات تطوعية خارج الغلاف الصلب المكون من علاقة الدولة والسوق وعلاقات التبعية الدولية يبدو زعما فارغا إلى حد كبير. ومع ذلك فان ضعف هذا الافتراض لا يعنى المصادرة على ما يتنبأ به بعض المنظرين الكبار مثل أرنست جلنر حول عصر جديد يقوم على نمط مجتمعى مستقبلى يتسم بالحرية هو المجتمع المدنى. غير أن قيام هذا المجتمع يتوقف إلى حد بعيد على توفر شرط ابتدائى هو الديموقراطية، ويجب أن يتخطى هذا الشرط فى اتجاه مجال أكثر عمقا بكثير حتى من الديموقراطية الشكلية فى المجتمع الرأسمالى. إن نظرية المجتمع المدنى - فى هذه الحالة - تصبح نظرية لما بعد الديموقراطية وليس للانتقال الديموقراطى، أى نظرية لبزوغ فعاليات مجتمعية تسعى لتحقيق التوازن مع القوى المتنفذة فى الأسواق أو فى العلاقة بين السوق والدولة.


ثانياً : تنمية المجتمع المدنى فى مصر

فإذا كان المجتمع المدنى العربى كيانا سائلا ومتغيرا وغير منتظم الهيئة أو متواصل التكوين، فذلك لأنه يخضع لتأثير قوى وعمليات اجتماعية - اقتصادية جبارة تعيد ترسيم العلاقات بل وتحديد طبيعة المجتمع وحالته أو حالاته. والواقع أن هذا هو ما يخفى فى العادة عن نظر هؤلاء الذين يبحثون فى تنمية المجتمع المدنى باعتباره مجرد قطاع يتكون من المؤسسات الوسيطة بين الدولة والفرد.وتعمل هذه القوى فى الأبعاد السياسية-التشريعية والمؤسساتية والفكرية أو المعرفية النشطة فى المرحلة الراهنة من تطور المجتمعات العربية. وبوسعنا أن نتتبع هذه الحقائق بتأمل طبيعة القطاع المدنى فى مصر وأسباب هشاشته عبر المحددات التالية.
1 . المحدد السياسى
لو شئنا أن نقترب من الحقيقة بكل تجرد، لقلنا إن الفترة منذ عام 1952 شهدت تصدعاً تدريجياً للمجتمع المصرى بكل مستوياته، وتطوره أساسا فى الهامش الذى تتيحه وتكيفه بإرادتها الدولة البيروقراطية الأمنية. وعلى عكس الأنظمة الشمولية والتسلطية الأخرى، تقوم النظم العربية عموما بتشديد الرقابة والتحكم السياسى على المستويات التحتية بأكثر من المستويات الأعلى للفعل المدنى والسياسى. فهى تغلق السبيل تماما تقريبا أمام المشاركة فى نظام المحليات وبالنسبة للنقابات العمالية، ثم هى توارب الباب أو تخفف الرقابة قليلا بالنسبة للنشاط الجمعياتى. وتتسع المواربة كثيرا بالنسبة للنقابات المهنية وللأحزاب السياسية التى تعتبرها مشروعة. وتحظى الصحافة المطبوعة بأعلى مستويات التسامح النسبى. ويقل هذا التسامح كثيرا بالنسبة للإعلام الإذاعى والتلفازى بحكم اتصاله بالجماهير العريضة.
هذا بالنسبة للأوعية المؤسساتية للفعل المدنى. أما بالنسبة لمجالات أو مستويات هذا الفعل، فالعكس يبدو صحيحا. حيث يقل التسامح مع الفعل الدعوى وخاصة ما يتعلق منه بالاشتباك مع السياسات العامة أو عندما يبحث عن صياغات مقبولة لسياسات بديلة. ويزداد التسامح مع الأنشطة ذات الطبيعة الخدمية والاجتماعية البسيطة مسيسة الصلة بالحياة اليومية للناس. وكان المسجد والبازار يشكلان الوسائل التقليدية للإعلام الجماهيرى وعندما بدأ توظيف المسجد للتجنيد السياسى تم وضعه تحت السيطرة. أما البازار فقد أخلى موقعة للسوق المجرد وفشل فى أن ينشئ حزاما مهما لنقل وتبادل المعلومات وتشكيل الاتجاهات. وتختلف فى ذلك مصر عن إيران وربما بعض الأقطار الشرقية الأخرى. وبينما تركت الدولة حرية معقولة للمقهى، فإنها سيطرت بصورة فولاذية على مجالس الأحياء والمدن. ولم تسمح بتبلور أى قدر من المشاركة المباشرة والحرة حقا على هذا المستوى. ونتيجة لتلك السياسات انتهى الدور التاريخى للحى المدينى فى مصر، والذى ظل القلب النابض للمجتمع المدنى التقليدى حتى بعد تأسيس الدولة المركزية الحديثة على يد محمد على (1805-1850).
هذه المصفوفة المميزة للسيطرة السياسية فى مصر والعالم العربى تحدد شكل وتوزع وديناميكية القطاع المدنى إلى حد كبير.
ففى الفضاء الجمعياتى، تعمل هذه المصفوفة أو المحدد السياسى بطرق متنوعة. ويعد تقييد حق إنشاء جمعيات أو محاربتها تشريعيا وإداريا آلية مهمة. ولكن الآلية الأهم هى السيطرة المباشرة وغير المباشرة على حيز كبير جدا من النشاط الجمعياتى. ولا شك أن ثمة قدراً واسعاً من الاستقلالية بالنسبة للأنشطة المدنية البدائية والبسيطة والتى يتم تمويلها عبر تبرعات بسيطة أو صغيرة وخاصة لو كانت تلك التبرعات من شخص واحد أو عدد محدود من الأشخاص. ولكن الجهازين السياسى والإدارى للدولة يهتمان بالسيطرة العملية المباشرة، بدءا من مرحلة التأسيس على عدد كبير من الجمعيات ذات القيمة فى التعبئة السياسية وخاصة الانتخابية. وعندما تكون جمعية نشطة أو ذات شعبية بين الجماهير قد تأسست بصورة مستقلة، فغالبا ما تستقطب الشخصية أو الشخصيات الفاعلة فيها لصالح حزب الدولة. ويحدث ذلك جزئيا أيضا فى الفضاءات الأخرى وخاصة النقابات العمالية. وتكيف هذه الوظيفة التكوين التنظيمى الفعلى لطائفة واسعة للغاية من الجمعيات الأهلية. فمن الناحية الفعلية، تعد هذه جمعيات الشخص الواحد حيث تلعب الشخصية المحورية دورا مهيمنا كلية. وتتوقف حياة وموت تلك الجمعيات على هذا الشخص وقوة صلاته مع جهاز الدولة السياسى أو الإدارى.
ولا يقتصر هذا المحدد السياسى على الدولة أو الحكومة وحزبها وحدهما. فأحزاب المعارضة الرسمية وغير الرسمية تهتم أيضا بالتمدد فى الفضاء الجمعياتى من خلال تبنى أو تأسيس أو السيطرة على جمعيات قائمة. وبوجه عام، مر الفضاء المدنى فى كل بلد بمرحلة معينة شهدت منازعات ذات طابع سياسى وإيديولوجى للسيطرة على منظمات غير حكومية مؤثرة وخاصة فى المجال الدعوى. ومع ذلك فيبدو أن ثمة اتجاهاً عاماً للتخلى عن تلك المنازعة مقابل تكوين منابر مدنية جديدة لكل تيار أو حزب أو جماعة سياسية. ولكن مجموع تلك المنظمات الدعوية ذات التوجه السياسى يظل ضئيلا للغاية بالمقارنة بالمنظمات الخدمية، وإن كانت الأخيرة أكثر نفوذا فى المجال العام
وبوجه عام لعب التشريع المعادى لحق تأسيس الجمعيات المستقلة ذات الوظيفة الدعوية أو حتى الخدمية دورا كبيرا فى قمع التطور الجمعياتى. ويلاحظ فى هذا الشأن أن الدولة تظهر قدرا كبيرا جدا من التصميم على السيطرة على بوابات الدخول والخروج للعمل الأهلى. فبعد أن واجهت مقاومة كبيرة للقانون 153 الصادر فى مايو 1999، وانتهى الأمر إلى الحكم بعدم دستورية هذا القانون والعودة إلى القانون 32 سئ السمعة، لم تتورع الحكومة عن إصدار قانون أسوأ من الملغى من حيث التشديد على السيطرة الحكومية وخاصة على التمويل وعملية تأسيس وحل الجمعيات.
2. المحدد الثقافى
بينما يصعب للغاية تعريف المقصود بالثقافة يستحيل تجاهل دورها الجوهرى فى تكييف تطور المجتمع المدنى فى مصر والعالم العربى.
ثمة بالطبع شئ واضح بذاته فيما يتعلق بالتركيب الثقافى للعالم العربى وخاصة فى مصر وهو الغلبة الساحقة للدافع الدينى والعلاقات التقليدية فى الفضاء الجمعياتى. وتكفى نظرة واحدة إلى أى قائمة للجمعيات من حيث الاسم والمهمة أو الدور، لندرك هذه الحقيقة التاريخية المتواصلة عبر الحقب والتجارب السياسية والاجتماعية.
وربما نناقش فى هذا الإطار مستوى التطور الثقافى الذى يميز الممارسة الفعلية لدور الجمعيات ذات التوجه الدينى والتقليدى. ففى غضون المرحلة الممتدة من عام 1952 عاد الفضاء الجمعياتى إلى مستوى أو منهجية العمل الخيرى البسيط والمتقدم فى تقديم خدمات شخصية للمحرومين. ولذلك تكثر فى هذا الفضاء الجمعيات التى تقوم بتقديم خدمات بسيطة مثل تحفيظ القران وتسهيل أداء شعائر الحج وبناء المعاهد الدينية والخدمات الإنسانية مثل رعاية الأيتام والرعاية الصحية للفقراء. ولا يتفوق على هذه الأنشطة من حيث عدد الجمعيات سوى صور الخدمات المرتبطة بالعلاقات القرابية والجهوية وبالأعراف السائدة وغالبيتها الساحقة هى أنشطة بسيطة لا تتطلب سوى تبرعات محدودة قبيل أداء الخدمة - أو بناء المشروع -الواحدة تلو الأخرى. غير أن هذا التكوين البسيط تطور وتعقد تنظيميا عبر الزمن وخاصة فى العقود الثلاثة الأخيرة، فتم تأسيس نظم أو مجمعات متكاملة لتقديم خدمات مختلفة بواسطة شخصيات أو حركات إسلامية معروفة وهو ما يعد تطورا ثقافيا مهما. ولكن هذا التطور الثقافى لا زال محدودا من حيث نسيجه النوعى أو منهجيته. إذ لا يزال يقوم فى الجوهر على العمل الخيرى الذى نادرا ما يشتمل على عملية تمكين أو مشاركة حقيقية. ونادرا ما يتم تجريد النشاط أو الدور ونقله من مستوى العمل الخيرى إلى مستوى العمل التنموى أو مستوى مناقشة ومراجعة السياسات العامة.
ومن هذا المنظور، فربما يحسن أن نربط هذه الجمعيات بالمجتمع الإيمانى أو الدينى لا المدنى وخاصة عندما تكون الخدمات المقدمة ذاتها دينية مثل تحفيظ القرآن وبناء المعاهد الدينية أو بناء المساجد أو الكنائس.
ولكن بعض هذه الجمعيات أو المنظمات غير الحكومية التى تتحرك بدافع دينى لا مدنى، تطورت ثقافيا إلى مستويات أعلى من حيث طبيعة المهمة. والواقع أن بعض هذه الجمعيات أو المنظمات غير الحكومية ولد فى الماضى البعيد متطورا للغاية من الناحية الثقافية المدنية. ففى العقود الأخيرة من القرن 19 والنصف الأول من القرن العشرين قامت بعض هذه الجمعيات منطلقة من دافع دينى ببناء بعض أهم الهيئات المدنية التى لا زالت تقدم خدماتها حتى الآن بما فى ذلك بعض المستشفيات العملاقة وسلاسل المدارس الكبيرة، إضافة إلى الأنشطة الخيرية والدينية الصرفة. ولا شك أن هذا الإنجاز كان مرتبطا فى الماضى بالتشريعات الليبرالية فى مصر خلال الفترة المشار إليها. ولكن بعضها نشأ أصلا فى ظل الدولة العسكرية التى بنتها ثورة 23 يوليو مثل الجمعية القبطية الإنجيلية. وفيما يبدو أن المستوى الثقافى المدنى المرتفع لهذه الجمعية وغيرها قد تولد بفضل شخصيات قيادية فذة نجحت فى تسييرها بذكاء بالغ فى ظروف سياسية وأطر تشريعية صعبة.
وبينما وقع إنقاذ عدد من الجمعيات والمنظمات غير الحكومية التى قامت بدور تاريخى مبكر فى مصر وعدد من البلاد العربية الأخرى، أجهزت الدولة العسكرية والاستيلاء البيروقراطى على عدد أخر من الجمعيات المهمة تاريخيا. وكانت الجمعيات والمنظمات المنطلقة من دوافع مدنية صرفة هى الأكثر تعرضا للبقرطة ومن ثم الاندثار الفعلى أو الرسمى. فالجمعيات العلمية على سبيل المثال والتى انتشرت بقوة وقامت بأدوار مهمة فى عقدى الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين، صارت مهجورة فعليا فى النصف الثانى من القرن العشرين. كما خسرت بعض الحركات الاجتماعية التى قادتها جمعيات مهمة تاريخيا مثل جمعية الرواد، قوة الدفع وصارت مع الوقت مجرد لافته. ولم يكن البطش السياسى هو السبب وراء خمود تلك الأطر، بل لعبت البقرطة الدور الأكبر. فجمعية الرواد فقدت حيويتها التطوعية عندما تحولت برامجها وقياداتها إلى سياسات رسمية. والجمعيات العلمية صارت محرومة من الفعالية بعد أن تم إخضاع الجامعات ومراكز البحوث للدولة منذ منتصف عقد الخمسينيات.
وتجرى محاولات كثيرة لإحياء مثل هذه الجمعيات التى تقوم بأدوار مدنية لا سياسية، وذلك فى سياق التحول الليبرالى الجزئى والمحكوم للنظام السياسى منذ منتصف السبعينيات. ومع ذلك فقد ثبت أن أكثر المستفيدين بالتسامح النسبى مع الفضاء الجمعياتى هى المنظمات المدنية الدعوية وخاصة فى مجال حقوق الإنسان والمرأة والبيئة والاقتصاد والأعمال والبحوث العلمية والمنتديات الفكرية والصالونات الثقافية وغيرها من الأنشطة المماثلة.
ولا يمكن القول بأن هذه الجمعيات تتمتع بالحرية الحقيقية. فالمناخ الثقافى معبأ بكامله بالهيمنة الحكومية. ولم يتغير الإطار التشريعى الحاكم - وكثيرا النابذ- لها سوى قليلا جدا. ومع ذلك فقد كان مجرد التسامح النسبى أو التعايش الاضطرارى مع هذه المنظمات أمرا بالغ الأهمية لنشأتها وتطورها. فسريعا ما تمكنت هذه المنظمات من احتلال دور قيادى ونشط للغاية فى الفضاء الجمعياتى وفى المجتمع بوجه عام. ومع ذلك تبقى قيود جوهرية للغاية بالنسبة لآفاق نمو تلك المنظمات من الناحية الثقافية.
ويتضح التأزم فى عدد مهم من جوانب الثقافة المدنية الحديثة.
وأول هذه الجوانب وأهمها يتمثل فى استمرار غلبة المنهج الخيرى والرعائى على الفضاء الجمعياتى نتيجة للتحيز الثقافى لهذا النمط من الجمعيات. فالثقافة المصرية الراهنة وبعد أكثر من نصف قرن من السيطرة الحكومية لا تكاد تثق فى أية دعوة كبرى فى المجال العام. أما ثانى هذه الجوانب فيتعلق بصعوبة إدراك الاستقلال النسبى للثقافة والأخلاق المدنية عن الدين والثقافة الدينية. ففى الوقت الحالى تستوعب الدوافع الدينية معظم الفضاء المدنى وتحل جزئيا على الأقل محله. فانصراف عدة أجيال إلى المفهوم الدينى للعالم ترك حيزا ضئيلا وعددا قليلا من النشطاء للعمل فى ميدان العمل الاجتماعى انطلاقا من الشعور بالمسئولية المدنية والأخلاق المدنية الصرفة. على أن الجانب الثالث يعد أكثر أهمية بكثير من حيث تأثيره على تشكل الفضاء الجمعياتى، أعنى ما يتعلق بثقافة التطوع.
فقد انكمشت ثقافة التطوع انكماشا مخيفا فى مصر والبلاد العربية الفقيرة عموما. ومن الواضح أن ذلك الانكماش يعود إلى التراث الطويل للبقرطة الحكومية لكل الأنشطة. ويعكس استمرار هذا الانكماش الوزن الساحق للقرارات والسياسات الحكومية بالنسبة لتطور التشكيلة الاجتماعية وأنماط الوعى والاستعدادات الشخصية المرتبطة بها. ولا شك أن الظروف الاقتصادية الصعبة تفسر جانبا مهما من الانكماش الملحوظ لثقافة التطوع. فنسبة كبيرة من سكان المدن وخاصة من العناصر الثقافية والتنظيمية العالية يضطرون للعمل ساعات طويلة للحصول على احتياجاتهم الأساسية. ومن ناحية أخرى فان الإغراءات التى يقدمها قطاع الأعمال والقطاع الأجنبى تؤدى إلى تفضيل العناصر والكفاءات النادرة التى يحتاجها المجتمع المدنى لهذا القطاع حتى عندما تتوفر فرص العمل المحترف بأجر فى بعض منظماته نظرا لانخفاض هذا الأجر وعدم استقرار بيئة العمل فى القطاع المدنى.
ولكننا نستطيع أن نشير إلى عامل ثقافى رابع له تأثير كبير على سلوك الفئات المثقفة وموقفها من العمل التطوعى فى المنظمات المدنية الحديثة وهو يتصل بالافتقار إلى ثقافة بناء المؤسسات وما يرتبط بها من انضباط. فخلال ربع القرن الأخير حل خطاب الحرية الفردية أو عدم الالتزام محل خطاب الالتزام الذى ساد عقدى الأربعينيات والخمسينيات حتى بين أكثر المثقفين إخلاصا للمصلحة العامة
3. المحدد التمويلى
تقول الحكمة التقليدية فيما يتعلق بالجانب التمويلى للمجتمع المدنى أن الناس ستكون دائما على استعداد للإنفاق والتبرع للأشياء التى يؤمنوا بها. ولا شك أن ثمة جانبا كبيرا من الصدقية فى هذا القول. فوعى الناس هو العامل الرئيسى المحدد للتمويل اللارسمى أو غير الحكومى. ومع ذلك فثمة اعتبارات إضافية لا بد من أخذها فى الحسبان. فالتشريعات والسياسات الحكومية هى عامل غاية فى الأهمية. وكذلك يمكننا إدراج عامل المهارة التعبوية والتنظيمية والتواصلية. وأخيرا فان توفر ثقافة خاصة باقتصاديات العمل غير الحكومى هو أمر بالغ الأهمية.
وتقود جميع هذه العوامل إلى تأكيد غلبة المنظمات والأنشطة ذات الدوافع الدينية. فالوعى الشعبى والنخبى على السواء يتسم - خلال العقود الثلاثة الماضية- بالدور الحاسم للدافع الدينى بأكثر كثيرا من الدوافع المدنية والسياسية. ويتلو ذلك فى الأهمية الأنشطة والمنظمات ذات الصلة بالولاءات الجهوية والقرابية العرفية بشكل عام. ويحسب فى هذا الإطار أيضا استمرار فشل المثقفين فى اختراق الساتر الهائل الذى يفصلهم عن الجماهير. ويعود هذا الفشل إلى عوامل متعددة كامنة فى تربية وتكوين المثقف ذاته وهى العوامل ذات الصلة بقدراته التواصلية ومهاراته التعبوية وخطابه ذاته. ولكنه يعود بدرجة أهم لعمليات تلقائية أثرت بقوة على حالة المجتمع. أن المجتمع كله صار مسرحا demobilized ومتشرذما ومفككا بصورة مخيفة.
وبينما تفرض التشريعات الحكومية قيودا حادة على التمويل المتاح للمنظمات الإسلامية من الداخل، فالأخيرة تملك قدرات تعبوية وتنظيمية ضخمة تمكنها من التغلب على تلك القيود. وعلى العكس من ذلك فان التبرع الداخلى للأنشطة المدنية والدعوية العليا محدود للغاية إن كان قائما بالأصل.
ويلاحظ فى هذا الصدد أن المجتمعات العربية والإسلامية كانت قد طورت مؤسسة تاريخية لتمويل بعض جوانب النشاط الخيرى والدينى وهى مؤسسة الوقف. ونجحت الدولة العربية الحديثة فى السيطرة شبه التامة على تلك المؤسسة الوقفية ووظفت التمويل المتاح منها لمصلحة السيطرة على المجتمع ككل أو لخدمة المصالح الاجتماعية والطبقية السائدة. أما فيما يتعلق بمؤسسات التمويل المدنية الحديثة، فهى تخضع لنفس القيود أو قيود أشد مما تخضع له بقية المنظمات غير الحكومية.
ويترك هذا الواقع التمويلى والاقتصادى المنظمات غير الحكومية الحديثة بدون فرص حقيقية للتمويل المحلى سوى من خلال التحالف مع الدولة أو المجتمع المدنى العالمى ومؤسسات التمويل الدولية. ولأن معرفة المجتمع الأوسع بالأطر المنظمة للتمويل الدولى للأنشطة غير الحكومية محدود، ولأن هذا المجتمع ما زال مستوعبا كلية تقريبا فى نمط الوعى الوطنى والدينى (أو الهوياتى بشكل عام)، فان المصدر الأخير لا يكتسب سمعة ممتازة بين جماهير الطبقة الوسطى. وتثور دوريا موجات من التساؤلات والمناظرات حول الشرعية الأخلاقية والسياسية للتمويل الدولى. وتستثمر الحكومات العربية هذه المناظرات بأقصى ما تستطيع وذلك لخنق المنظمات غير المرغوبة أو المرفوضة من جانبها ومن جانب قوى سياسية ومدنية كثيرة فى الواقع العربى.
4. المحدد المعرفى
لقد فشلت البلاد العربية حتى الآن فى الانتقال إلى مرحلة المجتمع الصناعى. وهى انتقلت إلى تشكيلة مميزة تسودها أنشطة الخدمات دون استيعاب عادات المجتمع الصناعى وميوله ومهاراته. وأضاف اقتصاد النفط أبعادا جديدة عززت من سيادة نمط معرفى واجتماعى يدور حول تحديث التقاليد من خلال تكنولوجيا مستوردة. فلم تنشأ حركة عمالية قوية سوى فى عدد محدود من أقطار المنطقة (تونس- المغرب). ولم تنتظم الطبقات الوسيطة فى هياكل نقابية فعالة بالمفهوم الغربى الحديث. وبوسع مجتمعاتنا العربية الإفادة من الثورات التكنولوجية، ولكن توظيفها يقتصر إلى حد بعيد على الغايات التى يحددها النمط الأساسى للوعى وهو ما أسميناه تحديث التقاليد: أى ممارستها بمستويات تكنولوجية لا مستويات معرفية أعلى. ومن ثم فان الانعكاسات المعرفية والسياسية والمدنية للانخراط فى الاقتصاد الدولى الحديث كانت ضئيلة للغاية.
وينعكس ذلك أيضا على إدارة الدولة ومنظمات المجتمع المدنى فى مصر على السواء. إذ تتوزع المعرفة بين نطاقات الممارسة الحديثة بصورة متفرقة وغير متساوية. ففى اقتصاد خدمى يقوم على الريع النفطى أو تصدير قوة العمل لا تكاد الثقافة الاقتصادية والمؤسساتية العصرية تتمكن من مد جذورها لدى أى قطاع مهم من الرأى العام. ومن هنا يفتقر المجتمع للمعارف اللازمة لممارسة الرقابة المدنية على السياسات العامة وخاصة السياسات الاقتصادية الكلية والجزئية. كما لا تقوم الجمعيات العلمية بدور يذكر فى هذا المجال. ويصدق ذلك أيضا على مختلف السياسات العامة التى تحتاج إلى ثقافة فنية-اجتماعية متعمقة مثل نظام المواصلات والنقل والنظام المصرفى والمالى والتموينى والزراعى والصناعى والتجارى وسياسات الصرف الأجنبى.. الخ. ولا تكاد المشروعات العامة تجد من يشتبك معها إلا على نحو بسيط ومتقطع. ويذكرنا الواقع الحالى بالدور الأنشط لبعض الجمعيات المهنية فى العصر الليبرالى وخاصة جمعية المهندسين المصريين. وعلى العكس تتوفر أعداد لا بأس بها من الجمعيات الثقافية التى تقوم بدور فى الرقابة على السياسات الثقافية. ويصوغ بعضها أو يدافع عن سياسات ثقافية بديلة.
وبوجه عام ينتعش النضال الدعوى ذو المحتوى الإيديولوجى أو الأخلاقى بينما تتسم المعرفة التخصصية بالضعف إلا فى مجالات مختارة مثل مجال حقوق الإنسان والسياسات الصحية وسياسات التنمية البشرية. وبوجه عام ثمة صعوبات كبيرة فى الانتقال إلى مجتمع المعرفة كما يدعونا تقرير التنمية البشرية فى المنطقة العربية الصادر عن برنامج الأمم المتحدة للتنمية.
وفى هـــــذا الســــياق كله، فان الحالة المدنية تتعرض للانكماش الشـــديــد مقابــــل العنف الرمـــــزى والمادى العام والخاص أو التحلل العام والتشظى إلى فردية انعزالية وقابلة للتوحش. ومن هنا لا يكاد المجتمــــع يرتبط معا ســـوى من أعلى عن طريق دولة عنيفة وإن لم تفقـــــد حميميتها تماما بالنسبة للمواطنين الفقراء، أو من أسفل عن طريق التضامنيات الدينية المنظمة سياسيا بدقة مدهشــــة. ويبقى قطاع اجتماعــــــى صغير وغير مترابط يناضل لاستعادة الأخلاق المدنية أو إحلال عادات ثقافية جديدة وايجابيــــــة محـــــل كثير من العادات السلبية الموروثة أو المبعوثة من الماضى البعيد. وعلى أكتاف هذا القطاع تنهض المنظمات الدعوية الحديثة والقليلة النشطة بصورة مطردة. وبينمــــا تستجيب هــذه المنظمـــــات لحاجـــات حقيقية، فهى لا تجـــد حاضنة اجتماعية كبيرة أو منسجمـــــة. ويبدو من المؤكد استحالة إنقـــــاذ هذا القطاع وإنعاش الحالة المدنية العامة بــــدون تحقيق الانطلاق الاقتصادى والديموقراطية السياسية
ولهذه الأسباب تقوم نشاطية المجتمع المدنى فى الأساس على الجاذبية الأخلاقية لقضاياها والاستعدادات الشخصية للتضحية لبعض قيادات هذا المجتمع، وليس على قوة الضغط الشعبى أو الاجتماعى.


ثالثاً: التطور الممكن للنشاطية المدنية

وبوسعنا الآن وبعد أن عرضنا للعوامل المحددة- أن نقدم قراءتين مختلفتين لاحتمالات نمو المجتمع المدنى فى مصر. القراءة الأولى تقول أن المجتمع المدنى تمدد فى الجيوب أو الفراغات التى تركتها الدولة مستقلة شكلا وأصرت مع ذلك على ملئها بنفسها أو الإشراف الدقيق عليها ، هذا فضلا عن هامش بالغ الصغر يتطور بحرية وبقوة دفع نشطاء مدنيين وسياسيين.
وبكل بساطة تقول هذه القراءة إن المستقبل لا يحمل وعودا قوية بإمكانية النهوض بالمجتمع المدنى بدون إحداث تحول ديموقراطى حاسم. وتعول هذه الرؤية على ما هو أكثر بكثير من إصلاح تشريعى جذرى فيما يتعلق بحق التجمع. فالديموقراطية قد تضمن إزالة القيود على الحق فى التجمع ورفع وصاية الدولة عن النشاط الجمعى والنقابى وعلى بقية قطاعات النشاط المدنى. ولكنها لا تضمن تدفق الطلب على استثمار وتوظيف هذا الحق. والجدلية أو الحيوية المجتمعية وحدها هى التى يمكنها تغيير واقع المجتمع المدنى وتوسيع رقعته.
أما القراءة الثانية فتقول بأن المجتمع المدنى العربى والمصرى تحديدا أظهر- إجمالا - حيوية كبيرة وإيقاعا أعلى فى التكيف الخلاق مع التحولات العاصفة التى تعيشها المنطقة والعالم بالمقارنة بالمجتمع السياسى. وأنه رغم القيود المفروضة نجح المجتمع المدنى البازغ فى القيام بأدوار متعددة بصورة مستقلة عن الدولة. فالمناظرات الكبرى انتقلت من المجتمع السياسى (الأحزاب إضافة إلى جهاز الدولة الإعلامى والثقافى) إلى مراكز النشاطية والفكر التى نشأت فى أحضان المجتمع المدنى. كما أن النشاطية المدنية بدءا من المستوى الفردى للفعل حتى الحركة العامة للمجتمع، مرورا بالقطاع المنظم تفاعلت بقدر معقول من الحيوية والكفاحية مع التطورات والأحداث الإقليمية والعالمية وتشابكت بدرجات مختلفة من النجاح مع المجتمع المدنى العالمى حول القضايا الكبرى فى الساحتين، كما ظهر إبان الغزو الأمريكى للعراق. وتتفاءل هذه الرؤية بإمكانية قيادة النشطاء المدنيين للنضال من أجل النضال الديموقراطى. وهو ما يعود إلى تطورات أو عوامل ديناميكية يمكن الإشارة لبعضها فيما يلى.
1. التطور الفكرى والثقافى
بصورة تجريدية للغاية يتنافس فى الفضاء المدنى نموذجان متناقضان نسبيا للقيم الثقافية: الأول يدور أساسا حول خطاب الهوية، والثانى يدافع عما صار يعرف بمنظومة القيم العالمية. كانت هذه هى الصورة التقليدية حتى وقت قريب. وقد دخلت إلى هذه الخريطة الفكرية عوامل ديناميكية جديدة. فأغلبية المجتمع تأخذ فعليا بمزيج من الخطابين فى سلوكها الفعلى واختياراتها الحياتية. ومن ناحية أخرى فلم يعد يوجد سوى عدد قليل جدا من الفاعليات المدنية والسياسية من هو على استعداد للتخلى عن الخصوصية الثقافية لبلاده، وخاصة الدور الثقافى للإسلام والمسيحية العربية. كما لا يوجد سوى جماعات تعيش على هامش الحياة المدنية والسياسية من لم يتأثر بخطاب العالمية أو على الأقل قوالبه العملية ومطالباته ذات الصلة المباشرة بأساليب الحياة العصرية. والصراع حول عالمية القيم يظل جوهريا لالتقاط جانب أساسى من الدينامية الثقافية فى بلد مثل مصر تعيش وتتفاعل مع المناظرات الكبرى فى الساحة العالمية. وبات من الممكن بل ومن الضرورى عقد مصالحات كبرى بين الاتجاهين المدنى والإسلامى السياسى على أرضية الديموقراطية. وبناء عليه تنشأ إمكانية أوسع لقبول التيار الاعتدالى من الحركة الإسلامية لقيم الديموقراطية وحقوق الإنسان بما فى ذلك حقوق المرأة والسلام العالمى من جانب الأطراف المعتدلة داخل هذا التيار.
2. البعد التنظيمى
عند المستوى المحدود من تطور المجتمع المدنى فى مصر والبلاد العربية يبدو أن القوالب التنظيمية لا زالت محدودة التطور بدورها. ويعانى التنظيم المدنى من مشاكل تقليدية أهمها قلة الموارد وتكرار الأدوار والضعف فى البنية التنظيمية وضعف الرقابة المالية وربما عدم الكفاءة الإدارية. وثمة استثناءات عديدة من هذه المشاكل التقليدية. إذ تطور التنظيم بصورة خارقة فى بعض المنظمات الكبيرة الدعوية وذات الاختصاص العام. كما تطورت تقنيات إبداعية من التنظيم فى بعض الحالات بفضل تواجد شخصيات موهوبة. كما فرضت هذه التقنيات نفسها أحيانا بصورة مستقلة عن الواقع الاجتماعى المعاش نظرا للتأثر بثورة المعلوماتية وخاصة الانترنت. ويلعب الانترنت دورا ثوريا- كما تنبأ كثيرون- فى ترقية الأداء التنظيمى والمؤسساتى للمجتمع المدنى فى العالم العربى وخاصة فى مصر حيث تتاح درجات أكبر من الحرية. ويمكن القول بأنه يشكل العامل الأكثر ثورية فى إسناد وتعظيم وتوسيع النشاطية المدنية. يمثل التشكيك أحد أهم الإضافات التى سهلها الانترنت وجعلها استراتيجية كاملة فى ميدان النشاطية. وبوجه عام، كلما تزايدت أهمية المعلومات فى حياة المنظمة زاد الميل لتقنية التشبيك. والواقع أن قدرا هائلا من النشاط المدنى صار يتم بواسطة أفراد أو جماعات رفاق صغيرة العدد وخاصة على شبكة الانترنت وفى ميدان الصحافة الإليكترونية ودون حاجة لأية هيكلية جماعية منظمة على الإطلاق.
ومن هذا المنظور تستأثر قضية الديموقراطية والحريات العامة وحقوق الإنسان بالجانب الأعظم من اهتمام المجتمع المدنى ومنظماته الدعوية والدفاعية والحمائية. فإلى أى حد ساهمت تلك المنظمات مع غيرها من الفعاليات فى التقدم بهذه القضية.
يلاحظ فى هذا الصدد أن الدولة البوليسية المتعالية لم تستجب للمطالب الأســــــاسية فى الأجندة المدنية والسياسية إلا فى حالات فردية أو نحو قضايا جزئية. ومع ذلك فالمجتمع المدنى قد حقق انتصارات جزئية فى مجال النضال الديموقراطى.
ويظهر هذا الإنجاز فى حركة كفاية باعتبارها تجسيدا للنشاطية المدنية بالمقارنة بالأحزاب السياسية الرسمية. فبينما فشلت الأخيرة فى إحداث حراك سياسى حقيقى، يمكننا أن نعزو الحراك الملحوظ خلال عامى 2004و 2005 لحركات الإصلاح التى اتخذت شكل النشاطية المدنية أو الحركات الاجتماعية والسياسية لا شكل الحزب السياسى.
ولكن هذا التطور الديناميكى للحياة السياسية كما شهدناه بالذات بعد التعديل الذى وقع للمادة 76 من الدستور، يظل مقيدا حتى يمكن للمجتمع المدنى أن يحقق مزيدا من التطور، ويتم فى نفس الوقت قطع شوط أطول وأداءً أفضل نحو الديموقراطية وحكم القانون. ويتوقف النمو المقبل للمجتمع المدنى على حل عدد من الإشكاليات الرئيسية، كما يلى.
أولا: استعادة التوازن بين القوى الاجتماعية المختلفة. فبينما تتمتع طبقة رجال الأعمال بأطر تنظيمية لا بأس بها وتتمتع الطبقة الوسطى بنقابات قوية- حتى لو أن أغلبها موضوع مؤقتا تحت الحراسة- تكاد تحرم الطبقات العاملة تماما من قنوات واليات التعبير المستقل. فلا يملك الفلاحون الأجراء والفلاحون عموما أية أوعية نقابية أو تنظيمية. أما النقابات العمالية فهى خاضعة بصورة شبه تامة للدولة، ويتصرف فيها الجهاز البوليسى بصورة كاملة كما لو أنها جزء من كيانه. والواقع أن من المستحيل قيام مجتمع مدنى حقيقى بدون حركة عمالية نشطة ومنظمة بصورة مستقلة.
ثانيا: ابتكار أساليب وأطر مجتمعية جديدة لموازنة قوة رأس المال الكبير. وهنا نلفت النظر لغياب التعاونيات الفلاحية واستمرار ضعف التعاونيات الإنتاجية التى تجمع وتنظم رأس المال الصغير وغياب الأطر التنظيمية للتعبير عن مصالح هذا القطاع. ونتصور أن تنظيم التعاونيات بصورة حرة ومستقلة (حتى لا تتكرر تجربة التعاونيات التى تسيطر عليها الدولة فى القطاع الريفى فى عقد الستينيات) يمثل ضرورة قصوى لا فقط من الناحية الاقتصادية، بل وأيضا من الناحيتين الثقافية والسياسية. ويرتبط بنفس المحور استمرار غياب حركة قوية لحماية المستهلك تقوم بموازنة قوة رأس المال الكبير بالرقابة على، ومكافحة الاحتكار والإغراق، وغيرها من صور العسف بحقوق المستهلكين. ومن المهم فى هذا الإطار أن تتكون حركة قوية للشفافية من أجل تأكيد المحاسبية والنضال ضد الفساد السياسى والاقتصادى. ومن المهم أيضا تأكيد الحق فى المعلومات وإنجازه فعليا ولو بصورة جزئية من خلال تشجيع البحوث والدراسات المستقلة.
ثالثا: وداخل الفضاء الجمعياتى ثمة ضرورة لفض العزلة الواضحة بين مختلف قطاعات وأنماط ومستويات النشاط من خلال التوسع فى بناء الاتحادات والشبكات الطوعية من أجل شد النشاط الجمعياتى البسيط وذى الطابع المحلى للتعرف على الفضاء العام. إن الدعوة والمساعدة المباشرة للنشاط الجمعياتى المحلى والقزمى والبسيط يعد ضرورة جوهرية لضم قطاع مهم إلى الفضاء العام وتوسيع دائرة اشتباكه مع الأجندة القومية.
رابعا: ولا شك أن أى استراتيجية لتوسيع وتنمية المجتمع المدنى يجب أن تتنبه للأهمية الخاصة لإنجاز ديموقراطية المحليات. فبدونها قد لا يمكن تجذير المجتمع المدنى وتحويله إلى كيان قومى بمعنى الكلمة. ويبقى أيضا توسيع وتعميق الحوار كقيمة جوهرية للمجتمع المدنى وكتعبير أساسى عن الثقافة المدنية. وفى الحالة المصرية والعربية عموما لابد من توسيع دائرة الحوار بين التيارين العلمانى والدينى والتوصل إلى قواسم مشتركة على الأقل فيما يتعلق بالعناصر الأساسية للثقافة المدنية وعلى رأسها مبادئ التطور السلمى ونبذ العنف والحقوق الأساسية للإنسان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق