الجمعة، 15 مايو 2009

في مواجهة التنظيم البيروقراطي للتعليم

الحلول المقترحة لحل الصراع بين البيروقراطية والنزعة المهنية

حاول بعض الباحثين المهتمين بشؤون التربية والتعليم إيجاد حل لهذه المعضلة، فانشغلوا بالحث عن الأساليب الإدارية وأساليب القيادة الأكثر تلاؤما وانسجاما مع طبيعة مهنة التدريس (Halpin, 1958 ; Gibb, 1983 ; Cohen & march, 1983 ; Stogdill, 1973) ودعا بعضهم إلى ضرورة إضفاء مسحة إنسانية على وجه البيروقراطية. يأتي في مقدمتهم هلبين Halpin الذي طالب بضرورة اعتماد أساليب القيادة التي تحقق أهداف المنظمة دون أن تخل بالعلاقات الإنسانية. ينطوي أسلوب القيادة الناجح، في نظره، على بعدين يجب أخذهما دائما بعين الاعتبار: يتعلق أحدهما بتحقيق الأهداف goal achievement، ويتعلق الثاني برعاية مجموعة العمل وصيانتهاgroup maintenance.. ولستغدل Stogdill رأي مماثل، فهو يرى أن أسلوب القيادة الناجح هو ذلك الذي يجمع بين درجة عالية من الاعتبار consideration الذي يظهره الرئيس لمرؤوسيه، من جهة، وقدرة عالية على الأخذ بزمام المبادرة لتنظيم المهام وهيكلتها وتوجيه الجهود نحو تحقيق أهداف المنظمةinitiatve structure. من جهة أخرى. ويرى جب Gibb بأن أسلوب القيادة السائد في مختلف أنواع المنظمات المدرسية هو الأسلوب الدفاعي defensive leadership، وهو أسلوب سلطوي يرتكز على المبادئ التي كشف عنها ماكغريغر McGrigor في نظريته المعروفة باسم نظرية theory X. وأما السبب في اللجوء إلى الأسلوب الدفاعي فهو الخوف وفقدان الثقة، بحيث يجد المرء نفسه في حلقة مفرغة: يخاف فيتسلط على الآخرين، ثم يزداد خوفا من ردود أفعالهم فيزداد تسلطا. ويرى جب Gibb بأن الحل يكمن في استئصال جذور الخوف وفي بعث مشاعر الثقة. فإذا كان الخوف يولد الخوف، فإن الثقة تولد الثقة، والمحبة تولد المحبة، ويولد الاحترامُ الاحترامَ. يكمن الحل في نظره في إحلال نمط قيادة جديد محل النمط الدفاعي، وهو نمط يعتمد على المشاركة كأسلوب في التدبيرparticipative leadership. يقوم هذا الأسلوب على أساس القيم الأخلاقية السامية، وهي قيم لا تتعارض مع القيم المهنية. وأما كوهن Cohen ومارشMarch فإنهما انطلقا من تحليل المنظمات المدرسية، وخلصا إلى أن ما يميز هذا النوع من المنظمات هو الغموض الذي يكتنف بعض عناصرها البنيوية الأساسية كالسلطة والأهداف وبعض الوقائع المرتبطة بها كالخبرة والنجاح، ووصفوها بأنها مجال للفوضى، ولكنها فوضى منظمةorganized anarchy ، يجد المرء نفسه فيها مضطرا إلى استخدام الاستراتيجيات الدفاعية بسبب الغموض وما يترتب عنه من خوف وحذر وفقدان للثقة بين الأطراف المتفاعلة فيها.

كيف يمكن، إذن، تدبير شؤون عالم يسوده الغموض والخوف والحذر؟ إذا كان جب Gibb قدر رأى الحل في إذابة الجليد وتنحية كل ما يبرر اللجوء إلى الأساليب الدفاعية في القيادة، فإن كوهن ومارش يريان أن الحل يكمن في العثور على خطة تكتيكية تمكن رجال الإدارة من التأقلم مع ذلك المحيط ومن الزيادة في قدرتهم على التأثير في مجريات الأحداث وخاصة فيما يتعلق باتخاذ القرارات وتنفيذها؛ وهو، بطبيعة الحال، حل تقني لمشكل اجتماعي معقد. يتمثل هذا الحل في القدرة على ابتكار واستخدام تقنيات الإقناع والتأثير كتلك التي تستعمل في الإشهار وفي الدعاية السياسية والانتخابية لتغيير اتجاهات الناس. ويعترف الباحثان بأن هذا الأسلوب، وإن كان أكثر فعالية من الأسلوب الدفاعي، فإنه ليس أقل غموضا منه. واقترحا خطة ترتكز على ثمان قواعد تكتيكية tactical rules لمساعدة الإداريين على حل المشكلات التي تواجههم؛ سوف نتطرق للحديث عن بعضها لاحقا، وأما ما يمكن ملاحظته الآن فهو أنها ليست غريبة عن روح الفلسفة السياسية لمكيافيل.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن بعض الفلاسفة تصدوا بدورهم لمشكل الصراع بين البيروقراطية والمهنة في قطاع التعليم، واقترحوا حلولا جذرية له؛ ولعل من أشهرها، في العالم الأنجلو-سكسوني على الأقل، ذلك الحل الذي اقترحه الفيلسوف الإنجليزي المعاصر لانجفورد Langford والذي صاغه في ضوء الفلسفة الفينومينولوجية. حاول هذا الفيلسوف أن يعالج مسألة الصراع بين البيروقراطية والمهنة بالرجوع إلى جذورها من أجل استنباط الحلول المناسبة لها؛ ولم يكتف، مثلما فعل علماء الاجتماع، بالتساؤل عما إذا كان التعليم مهنة أم لا، بل تساءل عما إذا كان ينبغي أم لا ينبغي اعتبار التعليم مهنة، وتساءل عما إذا كان يجب تنظيم التعليم على أساس المبادئ البيروقراطية أم على أساس مبادئ المهنة. وحاول أن يعرف أيا من هذين التنظيمين أكثر فعالية وأيهما أكثر إثارة للمشاكل؛ وبدأ بتعريف مفهوم المهنة، وحددها بأنها كل نشاط يهدف إلى خدمة الآخرين يحتاج فيه المحترف إلى معرفة علمية وخبرات تقنية، ولا يصبح الفرد عضوا في المهنة إلا إذا اجتاز مباراة للتأكد مما إذا كان يمتلك بالفعل المعارف والمهارات الضرورية. وتجلب المهنة لصاحبها تقدير الجماعة واحترامها ولاسيما حين تكون علاقته بالمستفيد من الخدمات علاقة مباشرة. ولكن أهم عنصر فيها هو المسئولية. ويرى بأن فكرة المهنة تستلزم بالضرورة وجود نوعين من المسئولية، وهما :

أ ــ مسئولية الشخص الملتزم. إن الشخص الملتزم هو الذي يعمل وفقا لمبدإ الواجب، فهو لا يعمل خوفا من العقوبات ولا طمعا في المكافآت، وإنما يقوم بما يعتقد أنه الواجب. وكما هو واضح، فإن هذا النوع من المسئولية لا يقبل المراقبة الخارجية، وهو يشكل في نظر لانجفورد حافزا قويا إلى العمل، ويزيد من اعتبار الشخص لذاته.

ب ــ المسئولية عن الأهداف والغايات: إن الشخص الذي يشتغل لحساب شخص آخر مسئول عن تحقيق الأهداف التي وظف من أجلها على الرغم من أنة لم يشارك في وضعها. ولكن الطرف الذي وظفه يكون مسئولا عن تحديد الأهداف وعن تحقيقها. يعتبر هذا المبدأ في نظر لانجفورد بمثابة الأساس الذي تقوم عليه فكرة المهنة. إذ لابد أن يقبل المحترف بحرية وتلقائية أهداف الجماعة قبولا كليا، بحيث يجب أن يعتبرها وكأنها أهدافه الشخصية.

إذا كان الأمر كذلك، فإن على المدرس باعتباره شخصا مسئولا أن يلتزم بأهداف الجماعة وكأنها أهدافه الشخصية. ينبغي أن يكون حافزه الأساسي في العمل هو مبدأ خدمة الآخرين، وأن يعمل كما لو كان رئيسا. ومعنى ذلك أن يعمل وفقا لأهدافه بوصفه مدرسا، لا وفقا لأهداف البيروقراطيين. يرى لانجفورد بأن تنظيم التعليم على أساس مبادئ المهنة سيؤدي إلى تقوية روح المسئولية لدى المدرسين والتزامهم بالأهداف وولائهم للمهنة. وطالما ظل التعليم محكوما بالمبادئ البيروقراطية فإن المسئولية عن الأهداف سوف لن تتحملها إلا فئة قليلة من البيروقراطيين اللذين لا يزاولون التدريس ولا يعتبرون أنفسهم جزءا من النظام الذي يسهرون على تدبير شؤونه.

يؤدي تشبث المدرسين بمبادئ المهنة إلى نشوء الوعي بوحدة الأهداف وإلى تشكل جماعة مهنية ذات هوية متميزة. يتوقف تشكل هذه الجماعة على الوعي المشترك بالانتماء إلى المهنة وعلى مبدإ التماهي identification الذي يعني دمج الشخص نفسه في شخص أو جماعة دمجا ينشأ عنه ارتباط عاطفي وثيق وروح عصبية esprit de corps قوية. تظهر الجماعة المهنية في ميدان التعليم عندما ينظر كل مدرس إلى غيره من المدرسين بنفس النظرة التي ينظر بها كل مدرس إليه، حيث يكون على وعي، ليس فقط بانتماء المدرسين الآخرين إلى المهنة، ولكنه يكون على وعي أيضا بانتمائه إليها، وبوعيهم على أنه على وعي بانتمائه إليها. يسمي لانجفورد العلاقة التي تربط المدرسين بعضهم ببعض في إطار جماعة مهنية ذات هوية متميزة "علاقة الوعي الذاتي المتبادل"the relation of reciprocal self-awareness، ويسمي الجماعة التي تتشكل بناء على هذه العلاقة " الجماعة الأولية"primary social group . تتحدد الجماعة الأولية في نظره بنظرة الأفراد إلى واقعهم؛ إنها واقع ذاتي. ويشترط أيضا لظهور هذه الجماعة اعتراف المجتمع بالمدرسين كمحترفين، وقبوله لنظرة المدرس إلى نفسه باعتباره فاعلا اجتماعيا قادرا على أن يقدم للمجتمع خدمات أساسية لما لديه من معارف ومهارات، وباعتباره شخصا ملتزما ومسئولا عن تحقيق أهداف نظام التعليم. يستلزم الاعتراف بذلك كله الاعتراف باستقلالية المهنة، ورفع المراقبة الخارجية عنها، وتحمل نفقات التعليم.

غير أنه ليس من السهل تطبيق هذا النموذج؛ إذ كيف يمكن التأكد من أن جميع المدرسين أشخاص مسئولين بالمعنى الأول لمفهوم المسئولية؟ وهل بلغوا جميعهم درجة من النضج يكون فيها الإحساس بالمسئولية الشخصية قويا إلى درجة يمكن معها الاستغناء عن مراقبتهم؟ ثم ما هي درجة إيمانهم بمبدإ خدمة الآخرين؟ وما هو حافزهم الأساسي في العمل ؟ أهو الإيمان بخدمة الآخرين؟ تشير هذه التساؤلات إلى الصعوبات التي تعترض تطبيق النموذج الذي دعا إليه لانجفورد. لنفترض جدلا أن الجواب عنها سيكون بالنفي؛ يتعين علينا في هذه الحالة أن نتساءل عن العوامل التي تحول دون نضج المدرس وتصرفه عن خدمة الآخرين وعن تحمل المسئولية. يمكن تسليط بعض الأضواء على هذه المسألة بالنظر إليها في ضوء نظرية الحاجات ومن خلال ربطها بعملية البلترة الناجمة عن الطريقة البيروقراطية في تنظيم التعليم.

لقد أوضح أرجيرس Argyris بما لا يدع مجالا للشك وجود تنافر بين متطلبات الشخصية فيما يتعلق بنموها ونضجها ومتطلبات المنظمة البيروقراطية فيما يتعلق بتحقيق أهدافها. يكفي لإثبات ذلك أن نتصور وضعية مثلى يجري فيها تطبيق المبادئ البيروقراطية بدقة وصرامة متناهيين، وضعية يتطابق فيها النموذج الأمثل للبيروقراطية كما صاغه ماكس فيبر مع الواقع. كيف ينبغي أن تكون سمات شخصية الفرد الذي يشتغل في مثل هذه الظروف ؟ لابد أن يكون ذلك الفرد بالضرورة إنسانا سلبيا يتلقى تأثير المحيط ويذعن له، تابعا لغيره، فاقدا لاستقلاله الشخصي، عديم القدرة على التحكم في ظروف العمل، ذي أفق ضيق، سجين الحاضر، ميالا إلى اقتصاد الجهد وإلى تجميد إمكانياته ومهاراته، وينتهي به الأمر إلى الانهيار السيكولوجي (1964Argygis, ).

تتعارض هذه السمات مع ما ينبغي أن تكون عليه الشخصية السوية، ولا تنسجم إلا مع حاجات الأطفال، ولا تستجيب، بكل تأكيد، لما يستلزم إشباع حاجات الراشدين وخاصة فيما يتعلق باستقلال الشخصية وتحقيق الذات وإثبات الهوية. حاول أرجيرس أن يبين ذلك انطلاقا من تعريفه لمفهوم الشخصية، ومن تصوره للنموذج الأمثل للشخصية السوية، مستفيدا من نتائج العديد من البحوث والدراسات، وعرف الشخصية بأنها تنظيم محدد لمجموعة من العناصر التي تشكل وحدة متكاملة، يساهم كل عنصر من عناصرها في تدعيم تلك الكلية والمحافظة عليها؛ وتساهم تلك الكلية بدورها في تدعيم وجود كل عنصر وتحافظ عليه وتصونه؛ وتسعى الشخصية إلى تحقيق نوع من التوازن الداخلي أو التوافق adjustmentوالتوازن الخارجي من أجل ضمان القدرة على التكيفadaptation ؛ وتكون مدفوعة بطاقة سيكولوجية (وعضوية)؛ وتحتل موقعا مناسبا في نظام معين؛ وتفصح عن نفسها من خلال جملة من المهارات والقدرات؛ وتنتظم عناصرها بشكل معين لتشكل ما يسمى بالأنا self الذي يعبر عن خصوصية الفرد، ويضفي على تجاربه سمة مميزة، ويمكنه من العيش في عوالم خاصة. وتتمتع الأنا بقدرة عالية على الدفاع عن النفس وعلى مواجهة مختلف التحديات الخارجية، وتتميز بميولاتها إلى النمو لتحقيق مزيد من النضج، ومن أهم هذه الميول :

§ الميل إلى الانتقال من حالة السلبية التي يكون عليها الأطفال اللذين يكتفون بتلقي تأثيرات المحيط إلى حالة الكائن الإيجابي الفعال أو الراشد؛

§ الميل إلى الانتقال من حالة التبعية التي يكون عليها الأطفال إلى حالة الاستقلال النسبي التي يكون عليها الراشدون؛

§ الميل إلى الانتقال من وضعية الطفل الذي يسلك بطرق متماثلة إلى حد ما إلى وضعية الراشد الذي يسلك بطرق عديدة ومتنوعة؛

§ الميل إلى الانتقال من وضعية الطفل الذي يتمسك بمصالح تافهة أو شاذة ثم يتخلى عنها بسرعة إلى وضعية الراشد الذي يكون على وعي بمصالحه الأساسية وتعقيداتها ويدركها في كليتها؛

§ الميل إلى الانتقال من وضعية المرؤوس الخاضع لسلطة الأسرة والمجتمع التي يوجد عليها الطفل إلى وضعية الراشد الذي يطمح إلى أن يلعب دورا أكثر غنى من دور المرؤوس؛

§ الميل إلى الانتقال من وضعية الطفل ذي الأفق الضيق القصير المدى والذي يتحدد سلوكه بمتطلبات الحاضر إلى وضعية الراشد ذي الأفق البعيد المدى الذي يمتد من الماضي إلى المستقبل؛

§ الميل إلى الانتقال من وضعية الطفل الذي لا يملك وعيا بذاته إلى وضعية الراشد الذي حصل له الوعي بذاته واكتسب القدرة على التحكم في الذات. إن تحكم المرء في سلوكه يولد لديه وعيا بشروط سلامة الشخصية واستقامتها integrity حسب تعبير إركسون Erickson، ويبعث في نفسه مشاعر طيبة تجاه الذات وهو ما يسميه روجرز Rogers اعتبار الذات وتقديرها self worth (Argyris, 1964)

وإذا قمنا بمقابلة النموذج الأمثل للشخصية السوية بالنموذج الأمثل للبيروقراطية فسنجد بأن التنظيم البيروقراطي ينسجم مع متطلبات النمو عند الطفل ولا يتلاءم بتاتا مع متطلبات شخصية الراشد. هذه هي النتيجة التي خلص إليها أرجيرس. ويتوقع أن يشتد التنافر بين متطلبات البيروقراطية ومستلزمات الشخصية السوية كلما ازداد نضج الشخص الذي يحتل المواقع الدنيا في هرم المنظمة، أو عندما تتشدد البيروقراطية في تطبيق مبادئها العقلانية، فيزداد ميلها إلى كبح آليات النمو والنضج لدى الفرد، وتبالغ في تعاملها معه كما لو كان طفلا غير مسئول. يؤدي فقدان التوافق بين متطلبات الشخصية السوية ومتطلبات المنظمة إلى حصول اضطراب في الشخصية يتجلى من خلال شعور الفرد بالحرمان، والعجز عن تحقيق الذات، وانهيار طاقاته السيكولوجية بسبب عجزه عن تحقيق التوافق بين أهداف المنظمة وحاجاته الأساسية، ويتجلى أيضا من خلال ضيق الأفق بسبب فقدان السيطرة على المستقبل الذي يظل غامضا بالنسبة للفرد، ثم إن رغبة هذا الأخير في الحفاظ على سلامته في ظروف عصيبة تجعله يعيش تجربة صراع داخلي مستمر. وتنشأ عن ذلك كله سلوكات شاذة تتراوح بين السلبية التامة والعنف الشديد، ويظهر الميل إلى الهروب من واقع العمل وإلى اعتماد الأساليب الدفاعية والإسقاطية لتبرير تلك السلوكات، إلى غير ذلك من التصرفات المرضية. وتضطر البيروقراطية في مواجهتها لهذه السلوكات إلى تقوية أجهزة الضبط والمراقبة، ولا يؤدي ذلك في الواقع إلا إلى الزيادة في تعقيد المشكلات. هكذا يتحول الحل إلى مشكلة؛ ذلك لأن أجهزة المراقبة تصبح أقل فعالية كلما ازدادت قوة 1983 Parkinson ; 1964 , Crozier .

ولكن، لماذا تتعامل البيروقراطية مع الشخص الراشد كما لو كان طفلا؟ يرى إدغار شاين Schein بأن سلوك الفرد داخل المنظمة يتحدد بثقافة المنظمة organizational culture، ويرى أن الثقافة التنظيمية من صنع القادة leaders اللذين يتولون تدبير شؤون المنظمة. يدل مفهوم القيادة عنده على القدرة على إنتاج الثقافة وصيانتها وتدمير ما عداها من الثقافات الدخيلة على المنظمة؛ تلك هي الوظيفة الأساسية للقائد والمبرر الحقيقي لوجود القيادة في نظر شاين. إن القيادة والثقافة، في نظره، هما وجهان لعملة واحدة. يدل مفهوم الثقافة عنده على:"...المصادرات الضمنية الأساسية basic assumptions والمعتقدات المشتركة بين أعضاء المنظمة، والتي تفعل فعلها بطريقة لاشعورية، وتحدد نظرة المنظمة إلى محيطها بطريقة تحمل على الاعتقاد بأنها نظرة عادية ومسلم بها" .(Schein, 1985, p. 6)تنشأ تلك المصادرات أو المسلمات الضمنية الأساسية كنتيجة للاعتقاد في نجاعة بعض الحلول التي أثبتت التجارب المتكررة قدرتها على حل بعض المشكلات التي تعاني منها المنظمة، وخاصة مشكلة التكيف مع المحيط الخارجي ومشكلة الاندماج الداخلي. وبما أن تلك الحلول نجحت في الماضي ولمدة طويلة، تحولت مع مرور الزمن إلى معتقدات، ثم إلى مسلمات وبديهيات، وانتقلت بحكم بداهتها إلى اللاشعور، وأصبحت تشكل المرتكزات العميقة أو الضمنية لفلسفة المنظمة التي تحدد نظرة الناس إلى واقع المنظمة وكيفية تعاملهم مع ذلك الواقع. يتحول الحل الذي أثبت جدارته كحل ناجع لفترة طويلة إلى معتقد مشترك، ويتحول المعتقد إذا استمرت الظروف على حالها إلى "مصادرة ضمنية أساسية". وعندما تتغير الظروف تظل المصادرة الضمنية ثابتة وراسخة بحكم انتقالها مع مرور الزمن إلى اللاشعور، وأصبحت من البديهيات التي لا يتجرأ أحد على وضعها موضع تساؤل.

يعتبر ماكغريغر McGrigor أول من حاول الكشف المصادرات أو المسلمات الضمنية الأساسية التي تقوم عليها البيروقراطية وتحدد نظرتها إلى البشر، وأفصح عنها في نظريته المعروفة باسم نظري X . تقوم البيروقراطية في نظره على التسليم بما يلي :

§ إن معظم الناس كسالى يكرهون العمل؛

§ يفتقر الناس إلى روح المبادرة، ولا يتمتعون إلا بقدرة ضعيفة على الإبداع وعلى حل مشاكل المنظمة، ولا يرغبون في تحمل المسئولية، ويفضلون أن يتولى الغير تدبير شؤونهم وقيادتهم؛

§ إن العوامل الاقتصادية والحاجة إلى الأمن هي الحوافز التي تدفع الإنسان إلى العمل؛

§ يجب إخضاع الناس لمراقبة دقيقة وتتبع أعمالهم وتحسيسهم بما يمكن أن يحرزوا عليه من مكافآت أو يتعرضوا له من عقوبات(Conrad, 1985)

تعكس هذه المصادرات تصور الفلسفة البيروقراطية للطبيعة الإنسانية: فالإنسان بطبعه كسول، بليد، غير مسئول، ميال لإشباع حاجاته الأولية، محتاج إلى من يسوسه. لذلك تتعامل البيروقراطية مع الراشد كما لو كان طفلا غير مسئول. وإذا كانت تعترف من الناحية القانونية بقدرته على تحمل المسئولية، فإنها لا توفر له الشروط التي تساعده على الارتقاء إلى مستوى الشخص المسئول. وإذا افترضنا أن المدرس الذي يشتغل في منظمة بيروقراطية كائن غير مسئول، فلمن ترجع مسئولية تحقيق أهداف التعليم؟ لاشك أنها سترجع منطقيا إلى أولئك اللذين يراقبونه، وهم يشكلون فئة قليلة، ولا يعتبرون أنفسهم جزءا من نظام التعليم، كما يقول لانجفورد. وبالإضافة إلى دلك فإنهم يشكلون فئة متراتبة تتوزع السلطة والمسئوليات بين أفرادها بشكل غير متكافئ، وذلك وفقا لمبدإ التراتب الذي يجعل كل مراقِب مراقَب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق