الجمعة، 15 مايو 2009

الإدارة الأمينــة المطلب الحتمي لتعزيز جهود التنمية الإدارية في الوطن العربي

مضامين الإدارة الأمينة:
إن السعي وراء تطبيق مبدأ الإدارة الأمينة في المنظمات العربية بوصفه مطلباً حتمياً للتنمية الإدارية ليس بالأمر اليسير؛ ذلك أننا ندرك تماماً أن الإدارة بقدر ما هي علم فهي فن يتطلب منا وجود أشخاص لديهم القدرة على تمثل المعارف والمهارات الإدارية في سلوكهم اليومي، وليس مجرد تكرار لهذه المعارف والمهارات في صور ألفاظ وشعارات أصبحت ممجوجة بالنسبة للمواطن العربي. بل إن السعي وراء تطبيق مبدأ الإدارة الأمينة يقتضي منا ضرورة الوعي بواقع ثقافة منظماتنا الإدارية التي هي جزء من ثقافة المجتمع العربي، هذه الثقافة حتى وإن كانت تعارض بعض السلوكيات الخاطئة في الإدارة كالمحسوبية والوساطة والرشوة، إلا أنها هي التي تدفع فعلاً العاملين في أجهزتنا الإدارية وبخاصة المنظمات الحكومية إلى ممارسة هذه السلوكيات؛ مما يثير التناقض بين ما هو مطلوب من الناحية القيمية وبين ما يمارس في الواقع، من ناحية أخرى فإن تطبيق مبدأ الإدارة الأمينة في المنظمات العربية بوصفه مطلباً حتمياً من مطالب التنمية الإدارية يواجه بمشكلة حقيقية تتمثل في تأثر الإدارة العربية جمعاء بمؤثرات خارجية، وخاصة الإدارة الغربية التي أصبحت جميعها تشكل جزءاً من واقع قيم وثقافة منظماتنا الإدارية؛ الأمر الذي يشكل بالنسبة لنا تحدياً كبيراً على مستوى صياغة الثقافة الإدارية التي من المتوقع أن تعكس فعلاً قيم المجتمع العربي وثقافته. هذه المشكلة تزداد صعوبة بالنسبة للدول العربية الفقيرة التي تجد نفسها في كثير من الأحيان مضطرة إلى اللجوء إلى المؤسسات الدولية الأجنبية للمساعدة في وضع برامج ومشاريع التنمية الإدارية وتمويلها. هذا الواقع جعل هذه الشعوب في موقف ضعيف جداً لا تستطيع فيه أن تطرح احتياجاتها من التنمية الإدارية، أو أن تكيف خطط ومشاريع هذه المؤسسات الأجنبية بما يتفق مع احتياجاتها الفعلية. هذا الأمر قاد في النهاية إلى فشل الكثير من هذه المشاريع والبرامج التنموية ومن ثم تحمل هذه الدول ديوناً مالية اضطرتها على الدوام إلى اللجوء إلى هذه المؤسسات الأجنبية؛ للاقتراض منها ومساعدتها على حل مشكلاتها الإدارية، حيث أصبحت بمثابة الداء المزمن لكن بدون دواء.
وبغض النظر عن المشكلات التي تواجه المنظمات العربية في جهودها نحو تطبيق برامج ومشاريع التنمية الإدارية، فإن ذلك لا يلغي حقيقة كوننا نستطيع أن نواجه هذه المشكلات وبخاصة ما يتصل منها بضرورة ترسيخ مبدأ الأمانة في الإدارة الذي هو جزء من مشكلة أخلاقيات الإدارة، هذه المشكلة يمكن التعامل معها من خلال طرح بعض المضامين الأساسية لمفهوم الإدارة الأمينة الذي يعتبر وجوده مطلباً حتمياً لنجاح جهود التنمية الإدارية في الوطن العربي . هذه المضامين هي:
01 ترسيخ مبدأ احترام الوظيفة الحكومية من خلال عملية الاختيار والتعيين.
02 الإدارة بالقدوة
03 تطبيق مبدأ المساءلة المبني على الوضوح والصلاحية.
وسوف يتم شرح هذه المضامين على النحو التالي:

أولاً: ترسيخ مبدأ احترام الوظيفة الحكومية من خلال عملية الاختيار والتعيين:
لم يعد مبدأ الجدارة الذي تنطلق منه أنظمة الخدمة المدنية في الوطن العربي يشكل القاعدة الصلبة التي يمكن على أساسها اختيار الرجل المناسب ووضعه في المكان المناسب، فالمعضلة التي يواجهها مبدأ الجدارة في اختيار وتعيين الموظفين والوظيفة العامة في الوطن العربي أو حتى المواطنين بأهمية مبدأ الجدارة في التوظيف، أو عدم سلامة تطبيق هذا المبدأ في أغلب الأحيان، وإنما يعود في حقيقة الأمر إلى صعوبة تطبيق المبدأ ذاته في ظل ظروف الانكماش الاقتصادي وكثرة العرض وقلة الطلب، إلى جانب التغاضي والتساهل عن كثير من المخالفات السلوكية في الوظيفة العامة، لقد أدت زيادة عدد طالبي الوظائف للانضمام للأجهزة الحكومية من جميع شرائح المجتمع، سواء أكانوا من الجامعيين أو من هم من دونهم إلى اللجوء إلى مبدأ الجدارة في عموميته، لا من أجل ضمان اختيار الشخص المناسب في المكان المناسب؛ فذلك أمر يستحيل تحقيقه في ظل تقديم المئات بل الآلاف أحياناً من طالبي الوظائف للمسابقة على عدد محدد من الوظائف، وإنما من أجل التحرز ضد أي شكوى قد يتهم فيها الجهاز الحكومي أو أجهزة الخدمة المدنية بأن الاختيار في هذه الوظائف قد كان راجعاً للمحسوبية أو المحاباة أو الواسطة، هذه الحقيقة يقابلها حقيقة أن عدداً كبيراً من طالبي الوظائف الحكومية إنما يسعون إلى الظفر بها، ليس من أجل المغنم المادي في حقيقة الأمر، وإنما بسبب ما تتمتع به الوظيفة الحكومية من أمان وظيفي وسمعة اجتماعية، يجعل الشخص يحرص على الحصول عليها رغم قلة المردود المادي منها في الوقت الراهن.
هذه المعضلة الناجمة من تطبيق مبدأ الجدارة ينجم عنها انضمام العديد من الأشخاص إلى الوظائف الحكومية، وهم في الواقع غير مؤهلين وظيفياً وسلوكياً للتعامل مع احتياجات المواطن، أو الشعور بالولاء نحو المنظمة التي يعمل بها أو الوظيفة التي يقوم بها، هذه الحقيقة نجدها ماثلة في شكوى كثير من مديري الإدارات والأجهزة الحكومية الذين يرون أن هؤلاء الموظفين الجدد يشكلون عبئاً على الجهاز، ولا يضيفون له أي قيمة تذكر. في المقابل فإننا نجد أن الموظف الجديد لديه الكثير من الشكاوى الناجمة عن انضمامه إلى الوظيفة الحكومية والتي أحياناً لها ما يبررها في الواقع، ومن بين هذه الشكاوى وأكثرها بروزاً عدم تطابق مؤهلات الشخص العلمية مع متطلبات الوظيفة التي يشغلها أو عدم ملاءمة الوظيفة للرغبة الحقيقية للشخص؛ مما يجعله كثير التبرم والسخط بوضعه الوظيفي. وبالطبع فإننا إذا ما أضفنا إلى هذه المشكلة القائمة مشكلة عدم رضا الموظفين الجدد عن مستقبلهم الوظيفي في الجهاز الحكومي، وخاصة فيما يتصل بترقياتهم فإن ذلك يجعل الأمر صعباً جداً فيما يتصل بالحصول على موظف يتمتع بالحماس والولاء والانضباط والشعور بالمسؤولية فيما يتصل بأداء دوره الوظيفي في الجهاز الحكومي، ومن ثم الاعتماد عليه في تنفيذ برامج ومشاريع التنمية الإدارية.
على أن مشكلة الوظيفة الحكومية لا تقتصر في واقع الأمر على الموظفين الجدد، إذ إن الأخطر من ذلك يتمثل في وجود العديد من الموظفين القدامى الذين أعطوا بسلوكهم الخاطئ السمعة السيئة عن الوظيفة الحكومية والجهاز الحكومي باعتباره مرتعاً للفساد الإداري وتدني الأخلاقيات.
إن هناك الكثير من الشواهد التي تمدنا بها وسائل الإعلام المختلفة من جرائد وإذاعة وتلفاز وتحقيقات إدارية، بل حتى التقارير العالمية التي تشير إلى أن عدداً من المسئولين في الأجهزة الحكومية في الوطن العربي، كما هو الحال في كثير من بلدان العالم، قد تورطوا في العديد من المخالفات السلوكية والإدارية، حيث ثبت عدم أمانتهم ونزاهتهم في العمل ومع ذلك ظلوا باقين في مراكزهم الوظيفية، لقد أعطى هذا الواقع انطباعاً لدى "العامة" بأن قلة الأمانة في الوظيفة الحكومية هي أحد المعايير التي يمكن على أساسها البقاء في الوظيفة لمدة أطول، بل والترقية للمراتب العليا وهو بالطبع اعتقاد خاطئ في مجمله ( الأيوبي ، 1406 هـ؛ المركز الدولي للتدريب، 1999م).
لقد قادت مشكلة التعيين العشوائي للموظفين الجدد في الوظائف الحكومية، والتغاضي عن أصحاب المخالفات السلوكية والإدارية إلى التقليل من احترام الوظيفة الحكومية والنظر إليها في أغلب الأوقات، وكأنها مكان لقضاء الوقت وإثبات الذات وليس لخدمة الآخرين.
هذه المشكلة المتعلقة بتدني احترام الوظيفة الحكومية لا يمكن حلها بالطبع بالسير على الأسلوب الراهن الذي يتيح لأكبر عدد ممكن من طالبي الوظائف التقدم لشغل وظائف محددة في الجهاز الحكومي تكون نتيجته عدم ضمان تحقق مبدأ وضع الشخص المناسب في المكان المناسب، كما لا يمكن في الوقت نفسه التغاضي عن أي سلوك مخالف لقواعد وأعراف المجتمع والعمل الصادر من أي موظف كان؛ لأن ذلك لن يؤدي إلا إلى المزيد من تدهور سمعة الوظيفة الحكومية، وهو ما يحتم علينا ضرورة الاهتمام بمبدأ ترسيخ احترام الوظيفة الحكومية.
إن التأكيد على مبدأ ضرورة احترام الوظيفة الحكومية كمضمون من مضامين الإدارة الأمينة يقتضي منا أن نعيد النظر كلية في فلسفة التوظيف في الجهاز الحكومي في الوطن العربي، هذه الفلسفة يجب أن تنطلق في مبادئها وممارستها من حقيقة أن الوظيفة الحكومية هي من أجل خدمة الآخرين بالدرجة الأولى، وليس لمجرد الانضمام إلى الجهاز الحكومي من أجل ضمان الأمن الوظيفي، هذه النظرة تستلزم منا تقبل حقيقة محدودية الوظائف في الجهاز الحكومي، وأنه ليس بالإمكان توظيف جميع أبناء المجتمع في هذه الوظائف، هذا يعني أننا لا بد أن نعيد النظر في أساليبنا ومعاييرنا المتبعة في اختيار الموظفين الحكوميين والتعامل مع الموظفين المخالفين من منطلق الأمانة والحرص على احترام الوظيفة الحكومية، هذا الأمر يتطلب منا معالجة قضية التوظيف برمتها كقضية أساسية من قضايا التنمية الإدارية في الوقت الراهن، بحيث يتاح المجال للعاملين في مجال التوظيف من تطبيق إجراءات التوظيف، وبخاصة ما يتصل منها بالمقابلات الوظيفية، بصورة سليمة وتوفير المعلومات الضرورية عن الأفراد. إننا في كثير من الأحيان نكتفي في عملية التوظيف بنتائج المسابقات الوظيفية التحريرية، وكأنها الأسلوب الوحيد لتطبيق مبدأ الجدارة في الاختبار والتعيين للوظيفة الحكومية، وبالطبع فإننا هنا لا يمكن أن نلقي باللائمة كلها على أجهزة الخدمة المدنية أو إدارات شئون الأفراد باعتبارها المسئولة الوحيدة عن هذه المشكلة؛ وذلك نظراً لكثرة عدد المتقدمين للوظائف الحكومية في الوطن العربي الذي لا يمكن معه في ظل تطبيق إجراءات المقابلات الوظيفية بصورة سليمة من أجل اختيار الموظف الملائم. على أن كثرة عدد المتقدمين للوظائف الحكومية لا تلغي حقيقة أننا في عملياتنا للاختيار والتعيين لهذه الوظائف كثيراً ما نباشرها بصورة تلقائية وارتجالية دون إعداد مسبق؛ مما تكون نتيجته انضمام أشخاص غير مناسبين للوظيفة الحكومية. إننا بحاجة إلى أن نؤهل القائمين على عملية التوظيف بالمهارات اللازمة لإجراء المقابلات الوظيفية، كما ينبغي أن نحدد لهم المعايير السلوكية التي يمكن على أساسها اتخاذ قراراتهم فيما يتعلق بقبول المتقدم للوظيفة من عدمه بدلاً من الاقتصار فقط على نتائج الاختبارات التحريرية. إن تحديد المعايير السلوكية للوظيفة ليس بالأمر اليسير ولكنه ليس بالأمر المستحيل، فإن هناك الكثير من الشواهد التي يمكن الاسترشاد بها فيما يتعلق بتحديد معايير السلوك المقبولة للعمل في الكثير من الوظائف والمهن، والتي بوجودها يمكن تعزيز احترام الوظيفة الحكومية، وبالتالي تهيئة الثقافة التنظيمية لتطبيق مفهوم الإدارة الأمينة. من هذه الوظائف نذكر على سبيل المثال لا الحصر وظائف القضاة والأطباء والمحاسبين.
إن وجود هذه المعايير سوف يعزز من فرص اختيار الأشخاص المناسبين للوظائف المناسبة، كما سيؤدي في الوقت نفسه إلى رفع مستوى احترام الوظيفة الحكومية، وبالتالي إمكانية تطبيق مبدأ الإدارة الأمينة على أن التأكيد على مبدأ ضرورة احترام الوظيفة الحكومية من خلال إعادة النظر في فلسفة التوظيف في الجهاز الحكومي لا بد وأن يواكبها خطوات إصلاحية داعمة تضمن تعزيز مفهوم الإدارة الأمينة لدى الموظفين الجدد أو القدامى منهم، بحيث تحد ما أمكن من أي سلوك يتعارض وأخلاقيات العمل، وهذه الخطوات هي:

أ. الاهتمام بعملية تقويم الأداء الوظيفي:
إلى جانب تحسين إجراءات المقابلات الوظيفية وتحديد المعايير السلوكية التي يمكن على أساسها اختيار الموظفين، فإننا ينبغي أن نعيد التأكيد على أهمية تقويم الأداء الوظيفي، سواء بالنسبة للموظفين الجدد أو القدامى.
إن تقويم الأداء هو العملية التي يتم بموجبها الحصول على المعلومات المرتدة حول فعالية العاملين بالجهاز، هذه العملية تؤدي على وجه العموم مهمة المراجعة والمراقبة واستخلاص المعلومات التي تتخذ على ضوئها الكثير من القرارات التنظيمية.
إن الاهتمام بعملية تقويم الأداء الوظيفي سوف يوفر للقيادات الإدارية في المنظمة العربية المعلومات التي تحتاج إليها للقيام بإعداد التوصيات الإدارية الملائمة وإجراءات مناقشات التغذية المرتدة مع الموظفين، كما سوف يحدد المواقع التي تتطلب إجراء تعديل أو تحسين في الأداء؛ مما يوفر للجهاز الحكومي فرصة تأهيل وتعديل سلوك الموظف بما يتلاءم ومتطلبات الوظيفة.

ب. اعتماد مبدأ التدوير الوظيفي:
إن التأكيد على أهمية احترام الوظيفة الحكومية يقتضي منا اعتماد مبدأ التدوير الوظيفي، انطلاقاً من افتراض مؤداه أن الأعمال المختلفة التي يقوم بها الموظفون قابلة للتداول، ومن الممكن أن يتم "تدوير" الموظفين من عمل إلى آخر دون أن يحدث خلل يذكر في انسياب العمل.
إن التدوير الوظيفي يعد مطلباً مهماً في ترشيح مبدأ الإدارة الأمينة، وبخاصة في الجهات التي تعاني من ارتفاع معدلات الفساد الإداري؛ نتيجة لإبقاء الشخص في وظيفته لمدة طويلة، حيث ينبغي نهج أسلوب التدوير الوظيفي بين الموظفين في هذه الأجهزة مع عدم الإخلال بكفاءة الأداء. إن التدوير الوظيفي سوف يساعد الموظف كما يساعد المنظمة على الخروج من دائرة الركود ومقاومة التغيير الناجم من الاعتقاد بأن الوظيفة هي ملك للموظف؛ ذلك أن مثل هذا الاعتقاد كثيراً ما يدفع بعض الموظفين إلى ارتكاب المخالفات الإدارية وتعطيل برامج التنمية الإدارية، الأمر الذي يؤدي إلى ترسيخ الكثير من الممارسات الإدارية السلبية.
مما سبق نخلص إلى القول إن إعادة النظر في إجراءاتنا الوظيفية الراهنة، وخاصة ما يتعلق منها بأسلوب المقابلات الوظيفية، أو الاهتمام بعملية تقويم الأداء الوظيفي، وتطبيق مبدأ التدوير الوظيفي، سوف يوفر لنا فرصة تغيير الثقافة التنظيمية في الأجهزة الحكومية بما يساعد على ترسيخ مبدأ احترام الوظيفة الحكومية، وبالتالي ضمان تطبيق مبدأ الإدارة الأمينة كمطلب حتمي لتعزيز جهود التنمية في الوطن العربي.

ثانياً: تأكيد الإدارة بالقدوة:
لقد كان الدافع الرئيس لكتابة هذا المثال هو إيمان الكاتب بأن مشكلاتنا في التنمية الإدارية في الوطن العربي ليست بالدرجة الأولى مشكلات تتعلق بالأنظمة الإدارية أو الهياكل التنظيمية أو الإجراءات، وإن كان لا يمكن التقليل من شأنها، وإنما مشكلتنا في المقام الأول هي مشكلة الأمانة في الإدارة، هذه المشكلة تتمثل في جانب منها في ندرة القدوة الإدارية في كثير من المنظمات الإدارية في الوطن العربي . لقد زادت قناعة الكاتب بأهمية "الإدارة بالقدوة" كمضمون من مضامين الإدارة الأمينة، علاجاً، عندما اطلع على مقاله الدكتور حسين رمزي كاظم رئيس تحرير مجلة " الإدارة" الصادرة في عام 1989م بعنوان " القدوة والعبرة " حيث يقول:
" لا أعتقد أن أحداً يستطيع أن يؤكد أن مشكلاتنا المعاصرة هي مشكلات اقتصادية ترجع أساساً إلى نقص في الموارد والإمكانيات المادية فحسب، بقدر ما هي – في حالات كثيرة- مشكلات سلوكية أصابت شريحة من مجتمعنا المعاصر في أخلاقيات التعامل وفي الإخلاص في العمل، وفي فقدان الانتماء إلى أرض مصر" (ص 402).
لقد أصاب كاظم (1989م) كبد الحقيقة عندما قال هذه العبارة قبل ما يقرب من ثلاثة عشر عاماً من اليوم، وأعتقد أننا لا نزال إلى حد كبير نعاني من مشكلات سلوكية تتمثل في كثير من الحالات في غياب الأمانة في الإدارة، والتي من بين مظاهرها غياب مبدأ الإدارة بالقدوة .
إننا بحاجة إلى مبدأ الإدارة بالقدوة بوصفه أحد الوسائل التي يمكن اللجوء إليها لمواجهة مشكلة تدني أخلاقيات الإدارة التي من بين مظاهرها عدم تمثل الأمانة في كثير من ممارساتنا الإدارية، وذلك إذا ما أردنا النجاح لبرامج ومشاريع التنمية الإدارية في الوطن العربي.
فما المقصود بمبدأ الإدارة بالقدوة؟ وما هي الأفكار التي يطرحها هذا المبدأ بالنسبة لمشكلة الأمانة في الإدارة؟
كلمة القدوة أو الأسوة بمعنى واحد، ويقصد بها السير على طريق المُقْتدى به. وهي نوعان:
النوع الأول: القدوة الحسنة، وتتمثل في الاقتداء بأهل الخير والفضل والصلاح في كل ما يتعلق بمعالي الأمور وفضائلها من القوة والحق والعدل، النوع الثاني: القدوة السيئة وتعني السير في المسالك المذمومة، واتباع أهل السوء والاقتداء من غير حجة أو برهان.
إن فكرة وجود القدوة تقوم على أساس حقيقة تأثير الانطباع، وحاجة الناس إلى القدوة تكمن في غريزة التقليد الكامنة في نفوس البشر، فهي رغبة ملحة تدفع الطفل والضعيف والمرؤوس إلى محاكاة القوي أو الرئيس، وعلى هذا الأساس يتضح أن عملية " الاقتداء ليست حالة طارئة قد تحصل وقد لا تحصل، ولكنها سلوك مغروس في نفس كل إنسان يظهر متى ما توفرت الرغبة في المحاكاة أو الاقتداء والاستعداد للاقتداء ووجود الهدف من وراء هذا الاقتداء ( القرني، 1423هـ، ص 5).
إن من الوسائل المهمة جداً في ترسيخ مبدأ الإدارة الأمينة بوصفه مطلباً لتنفيذ برامج ومشاريع التنمية الإدارية في الوطن العربي بفعالية، هو وجود القدوة الحسنة وبخاصة من القيادات الإدارية التي يمكن الاقتداء بأفعالها الحميدة، وذلك للأسباب التالية ( حميد، 1423هـ):

01 إن القدوة الحسنة تثير في نفس المقتدي قدراً كبيراً من الإعجاب والمحبة والتقدير بدفعه إلى محاولة ما استحسنه وأعجب به.
02 إن القدوة الحسنة تعطي الآخرين قناعة بأن بلوغ الفضائل من الأمور الممكنة، أي أنها في متناول القدرات الإنسانية.
03 إن مستويات فهم الكلام عند الناس تتفاوت، ولكن الجميع يتساوى أمام الرؤية المجردة لمثال حي، فإن ذلك أيسر في إيصال القيم التي يريد المصلح الإداري إيصالها للآخرين. فعن ابن عمر – رضي الله عنهما- قال: اتخذ النبي – صلى الله عليه وسلم- خاتماً من ذهب فاتخذ الناس خواتيم من ذهب فقال النبي – صلى الله عليه وسلم- : إني اتخذت خاتماً من ذهب، فنبذه – وقال إني لن ألبسه أبداً، فنبذ الناس خواتيمهم. رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي ومالك وأحمد. قال العلماء: فدل ذلك على أن الفعل أبلغ من القول.
04 إن الأشخاص المقتدين ينظرون إلى القدوة نظرة دقيقة وفاحصة دون أن يعلم هو، فرب عمل يقوم به لا يلقي له بالاً يكون في حسابهم من الأمور المهمة، وذلك بسبب أهمية ومكانة المقتدى به.
غير أنه ومع إدراكنا أهمية هذا المفهوم في السلوك الإنساني بشكل عام والسلوك الإداري بشكل خاص كمنهج لترسيخ القيمة الصحيحة ونبذ القيم السيئة، إلا أننا نكاد نجده مغيباً إلى حد كبير جداً في أدبيات الإدارة العربية. إننا ندرك تمام الإدراك أن أية جهود تنموية أو إصلاحية لا يمكن أن يكتب لها النجاح، ولا أن تؤتي ثمارها إذا ما اقتصرنا في جهودنا في مجال التنمية الإدارية على مجرد إصدار وتعديل الأنظمة، وإصلاح الهياكل الإدارية، وتيسير الإجراءات وتكرار الدعوات اللفظية بضرورة الالتزام بمبادئ الأخلاق. إننا بحاجة إلى القدوة الحسنة، وبخاصة من القيادات الإدارية المناطة بها بالدرجة الأولى مسئولية إعداد وتنفيذ خطط التنمية الإدارية؛ ذلك أن هذه القيادات تعطي بسلوكها الحسن المثل الطيب الذي ينبغي أن يحتذى به في مجالات العمل المختلفة.
انطلاقاً من أهمية مبدأ الإدارة بالقدوة، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف نجعل من القدوة مبدأ يمكن من خلاله ترسيخ مفهوم الإدارة الأمينة بما يخدم التنمية الإدارية في الوطن العربي؟
للإجابة عن هذا السؤال يمكن القول بأن هناك عدداً من النقاط التي يجدر بنا طرحها في هذا الموضوع، وهي على النحو التالي ( حميد، 1423هـ؛ القرني، 1423هـ):
01 ضرورة الإيمان بأهمية الدور الذي يقوم به الشخص في وظيفته أو منظمته.
لا يمكن أن يتحقق مبدأ الإدارة بالقدوة ما لم يكن لدى الشخص، وبخاصة القيادة الإدارية، الإيمان بأهمية العمل، بحيث يفضي هذا الإيمان إلى الإخلاص في العمل؛ ذلك أن ضعف الإخلاص عند كثير من الموظفين، وبخاصة ذوي المواقع القيادية يجعل المرتبطين بهم في العمل لا يتقنون بتصرفاتهم وربما قادتهم إلى اللامبالاة، وبالتالي عدم الحماس، بل وارتكاب المخالفات في العمل.

02 امتلاك المعرفة والمهارة الكافية بالنسبة للدور الذي يقوم به الشخص.
يعتبر امتلاك المعرفة والمهارة بالنسبة للدور الشخصي قوة تولد لدى الآخرين الانطباع الجيد عنه؛ مما يحفزهم على الاقتداء به؛ ذلك أن المعرفة والمهارة تعد حصانة للشخص من الوقوع في الأخطاء المتكررة، بل إنهما بمنـزلة الوسيلة الضرورية التي يمكن من خلالها توصيل أخلاقيات الإدارة الحميدة، بما فيها الأمانة، إلى الآخرين.
إن من بين إحدى مشكلاتنا الإدارية في الوطن العربي، وبخاصة فيما يتصل ببرامج ومشاريع التنمية الإدارية، هو أن هذه البرامج والمشاريع كثيراً ما توكل إلى أشخاص يفتقرون إلى حدٍ كبير إلى المعارف والمهارات التي تمكنهم من أداء الدور المطلوب منهم بنجاح، بل إن كثيراً من مشاريع التنمية الإدارية هذه توكل إلى شركات أو خبراء أجانب تنعدم لديهم فعلاً المعرفة والمهارة بالنسبة للمشاريع التي يقومون بها، حيث يجدونها فرصة للكسب المعيشي وللتعلم؛ مما يجعلهم غير مؤهلين لأن يكونوا قدوة للآخرين في المؤسسات العربية.
هذا الواقع أفضى في كثير من الحالات إلى فشل مشاريع التنمية الإدارية في الوطن العربي في تحقيق أهدافها، فضلاً عن الخسائر المادية والإدارية التي ترتبت على مثل هذا الفشل .
03 إذا كان الإيمان بأهمية الدور الذي يقوم به الشخص في وظيفته يتوجه إلى ذات المقتدى به، مما يفرض عليه أن يكون صالحاً في نفسه قويماً في مسلكه، فإن تمثل الأخلاق الحميدة يتوجه إلى طبيعة علاقته مع الآخرين، وأصول تعامله معهم. هذا المطلب من الممكن أن يتوافر في الشخص ليكون قدوة صالحة لغيره من خلال التزامه بالصدق- وفي الحديث " يطبع المؤمن على الخلل كلها إلا الخيانة والكذب، والصبر، والرحمة، والتواضع والرفق". ذلك أن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع منه إلا شانه.
04 الحرص على موافقة القول للعمل:
هذا هو المؤشر الحقيقي لسلوك الإدارة بالقدوة؛ ذلك أن الصدق أو الصبر أو الرفق ليس مجرد ألفاظ أو شعارات يتحدث بها المرء، ولكن لا بد أن تنعكس هذه الخصال في مسلك الشخص، فالناس لا تثق فيمن يقول ولا يعمل، بل إن كثيراً من الناس لا يتحمس للعمل أو يحرص على التزام الخلق في وظيفته إلا إذا رأى مثالاً أو نموذجاً مطبقاً يتخذه قدوة، ويدرك به أن هذا المطلوب أمر في مقدور كل واحد.
على أننا ينبغي أن ننبه هنا إلى أن الشخص حتى ولو كان قدوة ليس منزهاً عن الأخطاء، فقد تصدر منه زلة أو يحصل منه تقصير، فإذا حدث ذلك فليبادر إلى تصحيح هذا القصور، بل والاعتذار للآخرين، ولا يجعل ذلك عائقاً يحول بينه وبين التزام السلوك القويم بما يجعله قدوة للآخرين، بل إن الإصرار على الخطأ مع العلم بذلك هو نوع من الانتصار للنفس، وهي ظاهرة تنبئ عن عدم إيمانه بما يقول وعدم إخلاصه لما يحمله عمله من معان سامية، محاولاً إخفاء الحقيقة في سبيل عدم الوقوع في دائرة الإحراج التي يعتبرها مساً بكرامته ومكانته بين الآخرين، وهذا بالطبع سلوك يتنافى تماماً مع مبدأ الإدارة بالقدوة المفضي إلى الأمانة في الإدارة.

05 ضرورة توضيح القيم والتصرفات التي يقوم بها القدوة للأشخاص المقتدين به، خاصة تلك التي قد تحمل طابع التأويل السيئ .
إن تطبيق مبدأ القوة في الإدارة ينبغي ألا يقتصر على ذات المقتدى به، بل لا بد أن يصاحبه اهتمام بالأشخاص المقتدين؛ فهم بحاجة إلى أن يكونوا على علم ودراية بطبيعة السلوك الذي يتبعه القدوة، والقيم التي تحكم هذا السلوك حتى تتوافر لديهم نفس القناعة الموجودة لدى القدوة فيما يختص بطبيعة القول والعمل الصادر منه، بل إن الأمر قد لا يقتصر فقط على مجرد توجيه الأشخاص إلى السلوك الحسن، ذلك أن هناك فروقاً فردية بين الأشخاص في درجة فهمهم واستيعابهم للسلوك الصادر من الآخرين، بما قد يؤدي بالبعض إلى تفسيره تفسيراً خاطئاً، لهذا وجب على القدوة أن يوضح للمقتدين به بعض الأقوال أو التصرفات الصادرة منه والتي قد تحتمل التأويل السيئ من قبل الآخرين.
مما سبق يتضح لنا أن الإدارة بالقدوة تمثل أحد المضامين الأساسية التي يمكن من خلالها تحقيق مبدأ الأمانة في الإدارة. ذلك أن القدوة تعطي المثل الطيب الذي ينبغي أن يُحتذى به في مجالات العمل المختلفة، ومنها برامج ومشاريع التنمية الإدارية. من هذا المنطلق يمكن القول إن هناك دوراً كبيراً ينبغي أن يؤديه جميع الموظفين في وظائفهم فيما يتعلق بتمثل مبادئ القدوة الحسنة وبخاصة القيادات الإدارية منها؛ ذلك أن هذه القيادات يتعاظم دورها انطلاقاً من أهمية المكانة الوظيفية التي تشغلها والمهام التي تؤديها؛ مما يجعلها محل ملاحظة وتقليد الآخرين لها. وبهذا يمكن الجزم أن الكثير من مشاكلنا في التنمية الإدارية، وخاصة المشكلات المتعلقة بأخلاقيات الإدارة، من الممكن التقليل منها لو أننا تمثلنا في منظماتها سلوك القدوة الحسنة ومطلب الأمانة في الإدارة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق